الاثنين، 15 أغسطس 2011

دهشة الطين



دهشةُ الطين
طُفُول زَهران الصارمي
تألقت القاصة والشاعرة الجميلة طفول زهران الصارمي في الملتقى الأدبي السابع عشر والذي أُقيم هذا العام بضيافةِ شهباءِ نَزَوى .                                                      
نالت طفول زهران المركز الأول في مجال القصة عن نصها ( أي العوالمِ أَصَدْق ؟ ) وفي مجال الشعر الفصيح المركز الثاني عن قصيدتها المُعنونة ( طين ).                            
يغلبُ على السواد الأعظم من نصوصُكِ طابعُ حُزن شفيف وعمق يستحثُ ذاكرة المكان والطين فلأي هاجس تكتبُ طفول ؟                                                أكتب للقدر الذي فاتني أن أكون ، لتلك الأزمنة والعوالم القصية التي كان يجب أن أكون شيئا من منظومتها لكنني وصلت بعدها بزمن بعيد ، أكتب للطفولة التي لم تكن ، للإنسان الذي يجب أن يعاش ، اكتب صلاة الذاكرة الاولى ، وأكتبني فيها بكل تجلياتي وكل ما أعرفه عن طفول
( كلٌ فتاةِ بأبيها مُعجبة ) أي بوح تستفزُ هذه الكلمات في خاطرُكِ ؟
أبي رفيق العمر وتوأم الروح ، الصديق الاوحد الذي رافق إرهاصاتي الأولى وولادتي في الجرح ، تأثري المبكر بخطه الفكري وليبراليته الواعية ، أتاحت لي مساحات أوسع للتأمل والمعرفة ..
حضور أبي في نصي الشعري ، طين ، لم يكن في المقطع الأخير من القصيدة ، بل كان حضوره جليا ضمنيا مذ خطت قدمي صوب صباح الطين ، تماهيا مع تفاصيل الطين وعوالمه الحمراء حيناء ، والرمادية حينا آخر ..
إن كانت كل فتاة بأبيها معجبة ، فأنا لا يمكن أن اكون لأبي ورفيق روحي مجرد معجبة بكل ذلك التجريد والبساطة.
الترجمة ، الشعر ، القصة أي العوالم أقرب إليكِ ؟
لا أحبذ عادة توصيف وتأطير وتجنيس الادب ، الكلمة هي الحكم دائما ، هي من تختار حلتها شعرا أو نثرا ، أحب في الشعر ذلك الإقاع المعوزف على وتر القلب ، والموسيقى المنثالة منه ، احب الخلق فيه ، وتلك الأجنحة الإضافية التي يجردها الخيال متى ما حضر الشعر بحلته القزحية الفاتنه والمؤلمة معا . أحب في القصة تلك المساحات الحرة للبوح والهذيان ، ذلك التأمل في التفاصيل التي لا أستطيع التغاضي عنها كلما كتبت ، إلا أنني ادرك أنني في النهاية علي أن أختار احدهما ، وكم يخيفني أني قد اختار النثر وأترك يوما ما الشعر ..
اما الترجمة ، فذلك باب آخر أكتشف من خلاله نفسي ، انها مسؤلوية فكرية مقلقة ، لن أحب امتهان الترجمة ، او التفكير فيها كجانب تخصصي ، أفضل التعامل معها كشغف بعيدا عن الدراسة والمهنة .. هناك طموح كبير أعلقه عليها .
لم تكن مشاركتُك في الملتقى الأدبي السابع عشر هذا العام هي المشاركة الأولى ، كيف تصفين لنا مشاركاتُكِ السابقة ومشاركتُكِ هذا العام ؟
مشاركتي في الملتقى الماضي كانت مخيبة للآمال بعض الشيء ، وقد يكون ذلك طبيعيا في مشاركتي الأولى ، غير أن هذا الملتقى ، كان مختلفا جدا ، كان حقا ملتقى بالمعنى الحقيقي للملتقى ، ذلك الاثراء والاضافات الحقيقية لتجربتي الكتابية ، نقاء الارواح المجنحة ، اللقاءات والحوارات الفكرية العميقة .. اجدني الآن احن لكل ذلك ، ولأولئك الرفاق الذين جمعني بهم الملتقى هذا العام
أكثر من صديقة رفضت المشاركة في الملتقى الأدبي بدعوى أن مسألة فوز نص دون آخر في الكثير من الأعوام لم تكن منصفه ، ما رأيكِ أنتِ بهذا الشأن ؟
لا أنظر للملتقى الأدبي كمسابقة في المقام الأول ، أولئك الذين يسعدون للفوز ينتهون سريعا ، لايمكن أن يكون التحكيم منصفا باي صورة من الصور ، كل النصوص اولى ، وكما يقول الجرجاني لا يمكن المفاضلة بين الشعراء ، وذلك ينطبق على كل الفنون الأدبية ، ذلك ان لكل نص خصوصيته وما يميزه ، وبالتالي فالمشاركة في الملتقى وما يتخلله من فائدة وصقل للمقدرة الكتابية عن طريق المناقشات مع المشاركين والأدباء الحاضرين يجب ان يكون الهدف الأول من الشاركة ، هناك الكثير من الذين فازوا في الملتقى ثم اختفوا بعد ذلك ، في حين أن هناك من لم يفز غير انه أصبح الآن متحققا .. علينا ان نخلص للقضية الأدبية ، لا للجائزة المادية ,

في حوار في أحد المنتديات الأدبية أثار أحد المتابعين للملتقى الأدبي تساؤلاً حول الرمزية في قصيدة ( طين ) -  التي حصلت على المركز الثاني - ، ورأى بأنهُ من الصعب على القارئ – ما لم يكن واسع المعرفة – أن يفُكَ – حسب قوله – هكذا رمزية ولذا وجب على الشاعر النزول لمستوى القارئ ، فما ردُكِ على هكذا تساؤل ؟
نحن نطالب الشاعر دائما بالنزول لمستوى القارئ ، فلماذا لا يصعد القارئ لمستوى الشاعر؟ .. الشاعر ليس مطالبا بتفسير ما يكتب ، ففي لحظة الكتابة يتجرد الشاعر من نفسه ، فكيف له أن يلبس الآخرين ؟ .
من الملاحظ في الملتقى الأدبي هذا العام الحضور الكبير للأقلام النسوية خاصة في مجال كتابة القصة القصيرة واللافت للنظر كذلك تحرر الكثير من النصوص من قالب الأدب النسوي إلى الأدب عامة كأدب إنساني ، كيف تحررتِ من ميل الكتابة للمرأة وهواجسُها إلى نهج سبيل الأدب الإنساني ؟
ربما لأنني أراهن دائما على الإنسان ، متجردا من ذكورته وانوثته ، الإنسان كذات لا يعترف بتلك الفوارق الفيسيولوجية...
الكتابة هي لحظة انعتاق من الكثير من الاشتراطات الواقعيه ، لحظة يعيش فيها الكاتب عالمة الذي يتمنى ، ربما لأنني ذاتيا متجردة من التطرف الأنثوي ، لأنني أحلم دائما بأن أعيش كروح مجردة من كل العناوين والصفات ، ينعكس ذلك على ما اكتب.
يصعبُ على الكثير من القُصاصِ الذين يكتبون الشعر أن يفرقوا في كِتابتُهم للقصة بين الشِعرية والشاعِرية كيف استطعتِ أن تتجنبي فخ الوقوع في الشعرية حين تكتبين القصة؟
ذلك انني في كتابة القصة أميل إلى الواقيعية التأملية ، أهتم جدا بالتفاصيل الصغيرة التي أرسم من خلالها لوحتي المكتملة ، مبتعدة عن الجموع في الميتافيزيقيا كما يحدث عادة في الشعر .

من خلال نصكِ القصصي والقصيدة نجد المكان حاضراً بقوة ، نجدكِ بجناحين الأول يحتضنُ البيئة العُمانية بكلِ تفاصيلها الدقيقة بدءاً من الطين الذي حضر بقوة في كتاباتكِ وانتهاءً بخصوصية هذه البيئة بكل غموضها ونمنماتها ، بينما يحتضنُ الجناح الثاني لغة راقية جداً تنمُ عن قارئة جيدة ، ما دور المكان في استفزازك للكتابة ؟
أعود لأقول بأني متأملة لا أفرط بالتفاصيل الصغيرة ، وكلما كانت التفاصيل أدق كلما شكلت لدي قيمة أعلى ، وتلك التفاصيل هي ما يشي بها المكان عادة ، فالقصة الذاتية ذات المونولوج الداخلي لا يمكن أن توفر لي تلك التفاصيل الدقيقة ، غير أن المكان دائما يفضح مكنونات الأشياء التي لا يمكن ان ندركها بصريا ، علاوة على كوني فتاة ريفية بسيطة، مغمورة بماء الفلج الدافء ، ومظللة بالنخيل ، احترم خصوصية البيئة التي اعيشها ومشبعة بتفاصيلها ، لذا أجدها حاضرة دائما في كل ما أكتب ، إلا أنني أومن انها مرتبطة بطفولتي الأدبية ، قد تغيب لاحقا مع نضج التجربة ، واتيح لنفسي عوالم ابرح .


الملتقى الأدبي فرصة لاختلاط الجيل الجديد من الشعراء والقُصاص الشباب بالجيل الذي قطع شوطاً وتركَ أثراً يُحتذى به في الساحة الثقافية العُمانية ، إلى أي مدى أثرت مشاركتُكِ في الملتقى الأدبي على تطور كتابتُكِ ؟
لا يمكن ان أقيس تأثري بهذه السرعة ، فانا بحاجة للكثير من الصقل والاشتغال على نفسي ، لكن لا انكر حجم الفائدة التي نخرج منها عندما نلتقي بهؤلاء الادباء ليس على تجربتنا الكتابية وإنما على ثقافتنا الادبية وفهمنا للكلمة

كيف تتصورين قادم الشعر الفصيح والقصة القصيرة في عُمان ؟
لا أميل عادة للفتاؤل فيما يخص الادب ، رغم جمال النصوص التي نقراها للشباب إلا أننا لا نستطيع الحكم عليها كمشاريع لأديب قادم .
الجيل الذي سبقنا ، كان جيلا موثرا على الحراك الأدبي في السلطنة ، وجيلا مثريا للثقافة والأدب العماني ، ولا أجد ان هذا الجيل استطاع مواكبة الجيل الذي سبقه إلا من ندر من المدبعين الراسخين ..
لا ريب بأن المتأمل لساحة الثقافية العُمانية سيلاحظ الحضور الجميل لشباب ، فهل تتصورين بأن أقلام عُمان الشابة ستصمدُ لما بعد هذا الملتقى وبعد سنوات حين تلجُ إلى الحياة العملية وتفاصيل المستقبل الذي يسيطر هم المال فيه على الكثير من العقول بينما الأدب صفر اليدين من إغراءات المال وكلُ ما بحوزتهِ متعة ذاتية في دهشة الروح والآخر وتذوق الحرف ؟
التجارب الادبية التي يطرحها الملتقى ، تجارب مبكر جدا أن نحكم على ثباتها ، ففي تلك المرحلة لا يشكل الأدب قضية بحد ذاته بقدر ما يشكل مساحة للبوح ورئة اخرى للتنفس .
سنفقد الكثير من الأقلام التي رايناها في الملتقى ما إن يدخل الكاتب إلى معترك الحياة الحيقيقي ، وتبقى الكتابة مرسى مؤقتا للكثير..
وأما الزبد فيذهب هباءا ، والادب محاط بهذا الزبد  ، إلا أن الأيام القادمة كفيلة بغربلة هذه التجارب واسقاط الزبد عنها ، ويبقى دائما الأديب الحقيقي المخلص لقضية الأدب الأسمى ، الإنسان .

أُغلق الستار هذا العام على المُلتقى الأدبي وكُلنا أمل بأن يعود بربيع حافل بأقلام طموحة وسامية في منظورها للأدب كضرورة مُلحة ، والرهان الأصدق على الأقلام التي أثبتت بأن البند الأساس هو الموهبة وخير مثال طفول زهران ، شاكرة لروحها الطيّبة هذا الحوار القريب من روحي ومكتفية بتلاوةِ صادق أمنياتي لها بمستقبل أجمل إلى حينِ دهشة طين أُخرى .

الأربعاء، 20 يوليو 2011

اي العوالم أصدق ؟؟


كان الليل جاثما على صدر المكان , والصمت يطبق على الزوايا المعتمة ، ويخنق الأصوات الفضولية التي تتجرأ على النظر في عين الظلمة الثقيلة ، كل شيء يتزعزع ويذوي منزلقا إلى قعرها الموحش اللا نهائي .
*******

أصابع قدم صغيرة تتسلل بحذر خارجة بتزامن مع صرير المزلاج الصدئ ، تتبعها عين محتقنه تسترق النظر . تدور في محجرها بتوتر لتجمع كل الجهات معا .
ظهر الجسد الضئيل من خلف الباب ، وتقدم خطوتين مرتبكتين متجاوزا العتبة الخشبية التي نخرت أطرافها الرمة ،  ونحتت عليها سواقيها ومغاراتها المتشعبة.

**********

النظرات الحائرة تتفحص الظلمة الفارغة التي تبتلعه وتحرره من الجاذيبة فيغدو معلقا في مساحات لا نهائية من الفراغ ، التي تدفعه إليها ريح تتمدد على ظهره وأطرافه وتلصق نفسها به بعناد لا يمل.
دوي الباب منغلقا خلفه أعاده إلى مكانه على بعد خطوتين فقط ، أحس بعظام صدره تتصافق ، وكأن الباب ضرب بكل ثقله على صدره الصغير.
التفت بفزع خلفه ليجد الباب موصدا ، التصق بالباب وحاول جاهدا الوصول إلى مقبضه النحاسي الخشن . حاول الوقوف على أطراف أصابعه ، ومد عضلات جسده الصغير ليلامس المقبض ، لكن بلا جدوى ، وكاد  أن يهم بالبكاء لولا أن تذكر عيني أبيه الناريتين وصوته الجهوري زاجرا إياه : " أصمت يا ولد .. البكاء للحريم " .
زم شفتيه كي لا يلفض البكاء المتزاحم في حلقه ، كحجر يتوسع ويسد مجرى تنفسه ، رغم أن أنفاسه المختنقة كانت تفلت منه مصدرة صوتا خفيفا من منخريه الصغيرين ، وسمح لدموع عينيه بالانسكاب.
عاد يتأمل الظلمة المخيفة التي لم تترك زاوية إلا وأطبقت عليها وصبغت بسوادها أرجاء المكان ، وعندها بدأت كل الأصوات المختبئة بالظهور وكأنها تنبهت لوجود كائن آخر في هذه الظلمة.
من البعيد المجهول تأتيه أصوات قطط غاضبة وكأنها تخوض قتالا شرسا .. نباح كلب بعيد جدا عن المكان .. رفيف ينطلق فجأة من أحد الزوايا فوقه مباشرة .. الحشرات التي تجوب الليل كعسس جريء تصدر هسيسا هامسا وتطلق صيحات متقطعة ، لا تجيد تضبط إيقاعها المرتبك.
فجأة ، وبمجرد أن أوصد الباب خلفه ، فغر الليل فاه وأوسعت ظلمته فم الفوضى ، وبات الصمت الثقيل  ضجيجا لا يحتمل.

********

سديم صوتي كثيف بدأ يجمع نفسه من كل الجهات ، يخفت ليعود هادرا أقوى مما كان.
أصاخ سمعه وأنصت بخوف لذلك الصوت الأجش الذي يضج به المكان ، وتذكر ما تقوله له أمه كل ليلة :" عليك أن تنام بسرعة ، فظلام الليل قادم ، إنه يلتهم الأطفال الذين لا ينامون". فيدس نفسه تحت غطائه ، ينكمش على نفسه ويغمض عينيه كي لا يلتهمه ذلك الوحش اليلي . حتى يخدره الخوف وينام ..
لكنه هذه المرة ، تسلل خارجا بعد نوم الجميع ، ولابد أن أمه كانت محقة ، فها هو ذلك الوحش القادم من قعر الظلمة يتقدم صوبه ليبتلعه ، لآنه  لم ينم.
التفت برعب صوب الباب ، وحاول جاهدا الوصول للمقبض .
ندت عن خوفه أنة مختنقة . أطبق يديه الصغيرتين على فمه ، وخالجه شعور مخيف أن لا بد انه دل ظلام الليل عليه بسبب الأنة التي أفلتت منه..

*********

ازدادت حدة الريح ، وتناهى إلى سمعه صوت سلاسل ثقيلة تُجر ببطئ يرزح لثقلها المكان .. أحس بثقلها يضغط على صدره ، ورف قلبه الصغير بخوف حبس أنفاسه.
تذكر ما قالته له جدته ذات مساء حين حاول استراق النظر من النافذة صوب العالم المظلم خارجها : " ابتعد يا ولد .. لا تنظر عبر النافذة في الليل .. فهناك ساحر يجوب الظلام يجر خلفه ضبعته التي يقيدها بسلاسل ثقيلة جدا .. فإن رأتك سترميك بجمر من فمها يحرق عينيك .. وإن كنت قريبا منها ، ستنقض عليك وتمزقك بمخالبها وأنيابها السوداء "
استولى الرعب عليه وأصبحت كل خلية في جسده ترتجف خوفا .
كان بحاجة إلى أكثر من يدين اثنتين ليبقي كل شيء محكم الإغلاق .. أذناه اللتان قادتا إليه تلك الأصوات المخيفة .... عيناه المهددتان بالحرق إن رأى ما لا يجوز له رؤيته .. وفمه الذي سيلحق به العار كرجل إن أطلق صوت بكائه المخنوق ، والذي سيشي به عند تلك الوحوش الليلة الضارية.
ظل واقفا في مكانه دون حراك ، ينتظر اللحظة التي يبتلعه فيها ظلام الليل ، أو تحرقه تلك الضبعة المخيفة ..

*******

مر الوقت ثقيلا على قلبه الصغير ، ولاحظ عندها أن الأصوات كانت ثابتة في أماكنها لا تتحرك .
حرر فمه من يديه الصغيرتين وطوق بهما عينيه .. فتح عينيه اللتين اغلقهما بيده وفرج بين أصبعيه السبابة والوسطى ببطئ ليرى إن كان هناك ما يتربص به .
تسلل نور خفيف إلى عينيه وبدى كل شيء واضحا أمامه ، وخفت حدة الظلمة.
أنزل يديه وأشرع عينيه لاكتشاف الزوايا المظلمة .
كل الأصوات لا زالت تتردد برتابة وملل .. لا وحوش في الجوار ... لا سلاسل .. لا ضباع ... ولا أعين جمرية .. لم يكن كل ذلك إلا حفيف الأشجار المنغرسة عميقا في كل الزوايا والأمكنة . وصوت الحصى الذي تدحرجه الريح كلما عصفت ..

*******

ضوء مربع انعكس على الأرض بجانبه . رفع رأسه ليرى أن البيت قد أشعلت أنواره ، وتناهى إلى سمعه نداءات قلقة تبحث عنه..
فتح الباب خلفه وظهرت أمه الخائفة الغاضبة :" أنت هنا؟ .. أيها الغبي .. ألم أقل لك أن ظلام الليل يلتهم الأطفال الذين لا ينامون .. كيف خرجت ؟" ، نظر إلى أمه بحزن ،  وفي عينيها انعكست كل الأكاذيب حول عالم مظلم مخيف لا يجوز اقتحامه ، وزُرعت في روحه الصغيرة الخوف من عالم لا يعرفه ، ولا يحق له معرفته .
خلال الساعات القليلة التي قضاها في حضن الظلمة اكتشف كم أن العالم هناك في الداخل أكثر رعبا من العالم المظلم هنا . وأنه ما كان يقتات هناك إلا الوهم والجبن والخوف من اللاشيء.
كان عليه أن ينام ليبقى سالما من كل الوحوش الليلية الوهمية التي تتربص به في كل الزوايا المعتمة إن تجرأ على اقتحام الظلمة..
شفتا أمه لازالت تتحرك وتتشنج بغضب ، لكنه ما عاد يسمعها ، لاشيء سوى صوت الليل العميق ..
أشاح بوجهه  صوب العتمة اللامتناهية ... سار بصمت بعيدا حتى ابتلعته الظلمة ، وتلاشى ..

طفول زهران

طِــــيـــنْ



صمتٌ
ومَدَائِنُ روحي قد شاختْ
تَختَبِرُ الموتَ صباحاتٍ ونشيدْ
وصباحُ الطّينِ يُبعثِرُ خَفنةَ عُمْر
كانت منسيّةْ
كانت وتراً مشدوداً للقبر
كانت أغنية الليل الشاحب
كانت ....
إذ يقف القلبُ على عَتَباتِ صباحِ الطّينْ
إذ يسقطُ مصلوباً كمسيحٍ كَفَرَ بعفّةِ مريمْ
إذ يوقِظُ بوذا مذبحهُ في عين الشمسْ
إذا اغدو لاشيءَ سوى قربان الأمسْ
كانتْ كصباحِ الطّينْ
معلقةً ما بين سماءِ الروحِ .... وقاعِ القلبْ
وضفافُ الفجرٍ تُعَمِّدُ تاريخاً ...
ما شاءَ الربُ بأنْ يُكتَبْ
ما شاء الربْ ....
*******
الخطوةُ أولى
لكنّ قروناً تَجْتَرُّ مئاتِ الخطواتْ
أخشى من موضعِ قدمي أنْ أتَعثّرَ في وجهِهْ
أنْ أَسحقَ خطوة جَدّي
أنْ تمحو خطواتي الآثمةِ طهارةِ هذا الطينْ
أخشى أنَّ صباحَ الطينْ
قد هيَّأَ مقصَلةً
لتُهشِّمَ قَدَمي
ما إنْ أَخطو نَحو العَينْ ...
وَهْمٌ يا كُلّ صباحاتِ الطِّينْ
*****
يا بابَ الخشبِ المنسيّْ ...
ما أتعبكَ وقوفكَ منذ سنينْ ؟
قد رَحَلَتْ كل الأيدي الّلاتي في عُنفٍ ضَرَبَتْ صَدرَكْ
وأنتَ تكابرَ قهرَكْ
وتَئِنُّ بصمتٍ منذ سنينْ
.......
يا بابَ الخشبِ المنسيّْ ....
كمْ تَختضنُ مِن الذّكرى وحكايا الموتى ؟
كيْ تَحتملَ النَسيَ إذا ما غُيّبَ ذكركْ
كي تحكي ..
قصةَ مَن مرُّوا عبرَكْ
.....
مَن شَجَّ جبينَكَ ذا عاصفةٍ في آذارْ؟
مَن أَمطرَكَ شظايا؟
هلْ نَاحَتْ أمُّ الثّائرِ إِذْ دَسُّوهُ بجوفِ النارْ ؟
هلْ نَزَفَ الدّارْ؟
هلْ شَيَّعَ جسدَ البطلِ المُحترقِ عجائزُ وصَبايا؟
......
يا بابَ الخشبِ المنسيّْ ....
يا شاهدَ مقبرة الطينْ
لا زالتْ روحُ الجدِّ تمُرُّ وتَطرُقُ صَدرَكْ
تتلمسُ جبهتَكَ الدّاميةَ وتُشعِلُ ذِكرَكْ
لا تَأْبَهْ بالأحياءْ كثيراً
المَوتى علِموا
أنَّكَ ما أَخْفيتَ وراءَكَ قوَّادينْ
ما أَخْفَيتَ سَماسِرةً لصباحِ الطينْ
لمْ تَخلَعْ أرضَكْ...
*****
جُدرانُ الطِّينِ تُؤَثِّثُ وطناً للنِّسيانْ
وهناكَ الشُّبَّاكُ العلويُّ
تَئنُّ مفاصلُهُ
 إذْ تتكِئُ الرِّيحُ على ما نَخَرَ السُّوسُ مِنَ الزَّمنِ الأَغْبرْ
.......
هذا المسجدُ ...
ساقُ أبي الطّينَ إليهْ
كيْ يَعمُرَ أرضَ صباحِ الطينِ الّتقوى
لكِنَّ أبي ما كانَ يُصلِّ
ما صلَّى يوماً كيْ يُرضيْ الرَّبْ
صلَّى .... لينامَ أبوهُ قريرَ العينْ
وتزوجَ أمِّي ... لا كي تُنجبنيْ
كيْ تنجِبَ باروداً ورصاصْ
كي تَحملَ قنبلةً في عَلَفِ الماعزْ
كيْ تَغفو فوقَ الألغامِ لتَستُرها
كي تحيا الصّبرْ
وتَعرِفْ معنى أنْ تتزوجَ ثائرْ
أنْ تَحتضنَ إذا اشتاقتْ ... كفناً ...
أو جُدرانَ القَبرْ ....

طفول زهران

الأحد، 3 يوليو 2011

مساء مبعثر

 ..

لم آخذ معي الخيميائي لأقرأه في طريق ذهابي للمدرسة كما تعودت .. مضيت بكتاب اللغة الانجليزية المقرر تدريسه لفتيات البلد ..
أتامل الأطفال على دراجاتهم السابحة .. ومجموعة أخرى يلعبون كرة القدم ويتحلق حولهم مجموعة من المشجعين .. يعفرهم التراب ، ويلعبون ببهجة كبيرة رغم حرارة الجو ..
لا يوجد أطفال على باب المدرسة كما تعودت ولا أي من طالباتي .. ربما لأنني متاخرة بعض الشيء ، رغم أنه لازال هناك 5 دقائق متبقية قبل موعد الدرس ..
طفل على زاوية الباب يتابع حركتي ، اقتربت منه وربت على رأسه وحييته : مرحبا صغيري .. كيف حالك ؟ ... لكنه ظل صامتا ولم يرد .. نظرت إليه ، ابتسمت له ودلفت إلى الداخل ..
طالباتي ال18 يفترشن ارض غرفة الفصل الصغيرة التي لا يستر عريها سوى بساط صغير .. طرقت الباب وبصوت مرح عال : السلام عليكم .. أخباركن الحلوات ؟ .. ومضيت اصافحهن واحدة واحدة وانا اردد اسماءهن : اخبارش  صفاء .. علومش راجحة .. حياش مارية .. امورش مها .. عاشت مريومة ..... حتى انهيت فلانة ال18 ..
وبدأنا ندرس .. وبين حين وآخر القي النكات ، أو القصص .. ورغم ذلك انتهينا اليوم قبل نصف ساعة من نهاية الوقت .. تصافحنا وخرجنا ونحن نتضاحك ونعلق على إحدى الشقيات الجميلات ..
لاحظت اليوم ان عناقد عنب جميلة معلقة في المضلة .. وقفت عندها قليلا ، ثم خرجت ...
الجو أغبر وريح خفيفة تعبث بالأشياء حولي ..
لم اتوجه شرقا إلى البيت ، بل ارتقيت الشارع صعودا ... إلى يميني حديقة ، او بقايا حديقة ، يلعب فيها الاطفال . وهناك ثلاثة اطفال يسكبون ماء الثلاجة العامة على ثيابهم ...
وصلت إلى باب حديدي أزرق .. قرعت الجرس ، وفيما أنا أنتظر اتصل أبي ، يخبرني عن حاسوبه الجديد الذي اختاره ..
لم يفتح أحد لي الباب .. لكني أسمع اصواتا في الفناء .. كان الباب مغلقا بطريقة معاكسة ، القفل الداخلي في فتحة القفل الخارجي .. فتحت الباب ، ودخلت ...
أربع عجائز يفترشن الارض تحت شجرة البيذام الصغيرة يحتسين القهوة المرة ، مع الرطب اللؤلؤي الجميل ..
اقتربت منهن : السلام عليكم ..
نهضت ثلاث منهن لاستقبالي ، عانقتني الاولى بحرارة ،وهي تسألني عن حال الأهل وحالي ، وكذلك فعلت الثانية والثالثة .. أفسحن لي مكانا قرب الجدة التي لم تستطع الوقوف .. جثوت امامها ، وعانقتها : أخبارش ماه ؟ .. كيف صحتش .. مو انتيه والزمان ؟ ...
وترد بصوت متحشرج عميق : بخير أبوي .. هذي حالتي .. الحمد لله
وتسألها أحد العجائز : عرفتيها من هذي ؟
تنظر لي بتمعن وترد : لا ما عرفتها
أنحني لها وأرد : ماه انا طْفول .. ما عرفتيني ؟
تبتسم ، وتغوص عيناها : طفول بنت زهران ؟
ابتسم واعود لاحتضانها : هيّة ماه .. بنت زهران ...
تدمع عيناها وتعصرها بطرف وقايتها الداكنة : اعرفش امي .. _ ثم توجه كلامها للعجائز بجانبها – أعرفها ، لكن من سنين ما جات عندنا  ..
وتعود لتسالني ؟ : جاية وحدش ؟ .. من هين كذاك جاية؟ ..
جلست وتحلقت حولي العجائز وتسامرنا ، كل واحدة تنتقي لي حبات الرطب من سلتها، ثم تصب لي قهوة من دلتها ...
وانا أكابر غصة خانقة .. هذا النقاء ، كم أفتقده ... !!
خرجت من عندهن ، ورافقتني إحداهن حتى الباب الحديدي الأزرق ، وهي تردد عبارات الدعاء والنصح : تباصري امي قدامش الرحمن ، تماهلي عن الطريق ، الله يرزقش ويوفقش ...
وأنا اتمتم بالتامين والشكر ...
عدت في طريقي ، لكني انحرفت عن طريق البيت .. هناك من كان يجب علي زيارته .. مضيت في زقاق صغير يتوسط بيوتا ومزرعة مسورة بشباك حديدية ..
وقفت تحت أحد أشجار الشريش أمام باب حديدي اخضر .. لم أقرع الجرس ، ولم اطرق الباب .. دفعت الباب الحديدي ودلفت إلى الداخل ... لازالت شجرة البيذام الكبيرة تتوسط حوش البيت .. معلقة على احد أغصانها حجلة فخارية لا زالوا يستخدمونها حتى الآن لتبريد الماء .. وإلى اقصى اليمين شجرة سفرجل كبيرة تحتها قفص حمام اخضر كبير ... وأرجوحة صغيرة ...
هناك طفل صغير يلعب بالتراب قرب القفص : كيفك بابا ؟ ... عمتي هنا ؟
وأجاب بطفولة وبراءة جميلة : داخل ...
توجهت للباب الخشبي المفضي لداخل البيت .. طرقته ودفعته دون أن أنتظر ردا : هود هود .. السلام عليكم .. عموووه ؟ ...
تتوجهت إليّ طفلة صغيرة .. سلمت علي .. اهديتها قبلة صغيرة على خدها : وين عمتي حبوبة ..
اجابت بخجل : في المطبخ .. ..
وتوجهت إلى المطبخ ... وجدتها هناك منهمكة في عمل فطائر للعشاء .. عانقتها من خلفها : عموه
التفتت نصف التفاتة ، ما يسمح لها عناقي بذلك : طفول .. كلّي حرّ .. طلعي من المطبخ ريحة الأكل بتجي ف ثيابش ..
حررتها من ذراعي : جاية اسلم عليش وأروح
قالت وهي ترش السمسم على وجه الفطائر : والله ما تروحي قبل عن تتقهويي
قلت وأنا أفتح الثلاجة وأفتش هنا وهناك في زوايا المطبخ الصغير جدا : خلا عجب ، مستعجلة واجد ، باية أروح عند أمي زيادة اشوف صوغة بنتها ، هين قهوتش ؟ ..
بسرعة كبيرة كانت هناك دلة وسلة رطب وصحن شمام على صينية صغيرة
جلسنا قرب باب الشباك المفضي للمزرعة ، وتجاذبنا أطراف الحديث الودي الجميل .. استأذنت بعدها وخرجت ، ورافقتني عمتي حتى الباب الحديدي الاخضر ...
سرت متوجهة إلى بيتنا .. وعلى بعد قريب منه وقفت أمام باب بيت أخر ، وقرعت الجرس .. هذه المرة وقفت انتظر من يفتح لي الباب .. وفيما انا أنتظر ظهرت من البيت المقابل عمتي الأخرى والبيت الذي بجواره جارتنا صديقة امي .. توجهت إليهن .. تصافحنا وتعانقنا وتعاتبنا بعض الشيء على الغياب الطويل .. فيما فتحت الباب الذي كنت اقرع جرس بيته جارتنا الأخرى فانضمت إلينا .. وقفنا نتحدث قليلا على جانب الطريق وكلما مرت سيارة يزمر لنا صاحبها فنرفع ايدينا اليمنى ردا للسلام .. وبعدها تفرقنا .. وذهبت أنا برفقة الجارة التي كنت اقرع جرس بيتها ...
دخلنا معا للبيت وسألتني : عجب هين امش ؟
قلت ممازحة : مو يعني ما أسدش انا ؟
ضحكت الجارة الطيبة : تكفي وتوفي
دخلنا البيت .. وهناك جاءت العروس للسلام علي .. كانت زميلتي أيام الدراسة الثانوية .. أخرجت الذهب الذي اشترته لعرسها لتريني إياه كما جرت العادة .. وكنت أردد العبارات المعتادة : ما شاء الله .. ملبوس العافية .. زواجة دنيا وآخرة ...
وهي تؤمن على كلماتي ...
تحدثنا عن النصيب والعرس والزواج .. والأطفال ومسؤولياتهم ..
في طريق عودتي .. كل شيء كان كما تركته قبل ساعتين .. الأطفال على دراجاتهم السابحة .. الأشجار تتهادى على عزف الريح .. السماء بنية مغبرة ... والعصافير تصدح بصخب ...
لكنني لم اعد كما تركتني قبل ساعتين .. كان هناك ما تغير
كان هناك ما تبعثر

طفول زهران