الأحد، 30 سبتمبر 2012

فينيق







النــــــــهـــــــــــــــــــــايــــــــــــة .....

لم يكن هو ذلك المسجى على النعش ، جسده المتفحم وتلك الابتسامة الساخرة التي ارتسمت بها شفتيه جعلت كل من ينظر إليه يتراجع في هلع ويصرخ : إنه حي!! ..
ابتسامته كانت تطفح بالحياة ، كانت تقول الكثير دون أن تقول ، ولم يكن يسمع همسه سواي ..
مررت يدي على جلده المتفسخ ، وأنا أنتظر من اي الجهات سينيت ، ليغرس عينيه خنجرا في خاصرة الحياة وهو يضحك بعنفوان، تماما كما كان يضحك للموت وهو يحترق .. 
كنت أراه دائما يتشظى أمامي ، كان يكبر سريعا ، سريعا جدا .. أسرع من أن يتسع له جسده الضئيل..
*******
يقول الشيخ أبو سليمان أنه لم يصلِّ يوما، لكنه رآه في غسق اليوم الذي مات فيه يجلس عاريا محتميا بالنخلة الممتدة إلى جانب المسجد، يحيط جسده بذراعيه و يرتجف بعنف. ظن في بادئ الأمر أنه أحد "المغاصيب" ولم يتوقف عن تمتة آية الكرسي، حتى نهض كاشفا عن عورته، ينز من جسده عرق بارد، وتبرز منه جروح طويلة متخثرة.
وحين رفع أبو سليمان صوته بالأذان : (الله أكبر ، الله أكبر). تحرك صوبه، فامتلأ أبو سليمان رعبا وهو يرقب تحركه  ما تتيح له زاوية عينه الجاحضة النافرة العروق ، فعلا صوته من الخوف أكثر، وحشرجة عميقة تغلفه ،وكأنه يستنجد  : ( أشهد أن لا إله إلا الله )، لكن هذا الآخر كان يقترب منه ببطئ ،وأبو سليمان يصرخ ( أشهد أن لا إله إلا الله)، حتى أتاه من خلف وأطبق على فمه ليخرس صوت الأذان.
أحس الشيخ أبو سليمان على ظهره تلك الحرارة اللافحة لجسد الصبي تمتزج ببرودة عرقه الذي تفوح منه رائحة ثور الحرث، وهمس في أذن أبي سليمان ( الموتى .. لا يؤذن لهم يا شيخ!) ، فانسل أبو سليمان من بين يديه وهوى على الأرض كخرقة يرتجف ويتعثر بتمتمات غير مفهومة.
أما هو ، فما إن توافد الناس هلعين إلى المسجد على إثر ذلك الأذان المبتور حتى فر واختفى كأن الأرض همت به.    
**********
لا زلت أذكر ذلك اليوم، حين طلب والده من البيدار التخلص من نخلة الفحل الكبيرة في قلب المزرعة، وأتى له بمشرط ثقيل يعمل بالسحر، كان يتحول إلى سكين عضيمة تهتز إذا ضغط على زر في مؤخرته.
لم تكن المشكلة في المشرط الغريب، بل كانت في تعلقه بتلك النخلة ، فقد كان يطيل الجلوس تحت ظلها المستطيل بكل الاتجاهات التي تعبث بها الشمس، حتى باتت نخلة الفحل تفتقده وتسأل عنه إن غاب ، ويكفهر مع غيابه سعفها ويصفر ، لكنه فوجئ ذات صباح موغل في الفقد بأبيه يصحبه رجل أسمر ضخم، أحرقت ملامحه الشمس، يعصب منديلا على رأسه ، ويحمل ألة ضخمة نفرت عروق يده من ثقلها، وهم بجذع النخلة يحدث شقوقا غائرة فيه، وكثور هائج انطلق يدفع الرجل الضخم بجسده النحيل ، حتى أوقع من يده المشرط ، واستمر- يدفعه خوفه اليتيم-  في محاولة منع البيدار من قطع النخلة .
أمسكه والده بكلتيه وقد أعماه الغضب، لكنه لم يني يتخبط بين يدي والده يحاول الإفلات وهو يصرخ : ( دعوه ... كيف تثمر نخيلكم وأنتم تعدمون الفحول ؟؟؟ ويل لكم،  ستموتون عقما ) ، وفي عينيه امتدت ألاف الحرائق وانصهرت حافرة أخاديدها في وجهه الذابل النحيل.
هوت نخلة الفحل على صفحة عينيه الغائمتين، وهوى يمرغ وجهه في ليفها . ضجت القرية يومها بصوت بكائة المشحون بالفجيعة والفقد ، ولم نعرف والده من قبل بكل ذلك الغضب والهياج ، فقد رأيناه يدخل إلى الزربية محتقن الوجه ، حل الحبل الذي يربط الثور به ، واتجه إلى ولده يجلده بالحبل كيفما اتفق حتى تقطعت ثيابه على جسده ونفر الدم منه وامتزج  بطين الأرض، ولما أفرغ كل غضبه على ذلك الجسد الضئيل نصبه على جذع النخله ولفه بالحبل ، وأتانا يلهث غارقا في عرقه ، يصرخ بنا :( سينال كل من يقترب منه ذات الجزاء ، دعوه يتيبس ويموت في مكانه) . ولم يكن أحد ليجرأ على عصيان أمره.
*********
حين سكن البيت وهجع كل من فيه، خرجت أتحسس الأرض بعصاي حتى وصلت إليه. أخرجت الموسي من بين ثيابي وقطعت الحبال ، وهمست له :( اذهب ولا تعد، وطنك ليس هنا يا ولدي).
مضى يجتر جسده الذابل دون وجهة يقصدها ، وبقيت أرقبه حتى اختفى .
حين أشرقت الشمس نهظ من في البيت ليجدوني أتوسد الأرض تحت نخلة الفحل المدد  والحبال بجانبي مقطوعة ، ولا أثر للصبي . كان لا يخيفني غضب والده، فلم يعد لدي ما أخسره لأخاف عليه ، ولم يبق من العمر ما يمكن أن يغري للبقاء أكثر. علم الجميع أنني من أطلقه ، وأتى والده مدفوعا بغضبه يصرخ والزبد يتطاير من فمه لشده انفعاله وعروق وجهه نافرة ، لكنني لم أسمع يومها شيئا ، سوى وقع الخطى المتعبة للصبي في قلبي.
مر النهار دون أخبار عنه ، ودون أن يراه أحد، حتى ظننت أنه تبخر وتلاشى، لكن في المساء استيقظت القرية على صوت أذان الشيخ أبو سليمان بل على صوت صراخه الباعث على الرعب ، ثم انقطاعه فجأة دون أن يتم الأذان . هرع كل رجال القرية وصبيانها إلى المسجد على إثر الأذان الخائف المبتور ، أما أنا فبقيت واجفة القلب أترقب ما يسفر المساء عنه من فجيعه، وظللت واقفة أستند على ساق شجرة الأمبا الضخم.
*************
من خلف الظلمة الضبابية كنت أسمع أنينه وصوت حركته المنهكة ، وترآى لي وجهه مدججا بألم عميق لا يحتمل وبتعابير لا تفسر ، وبدى لي أكثر بؤسا من أي يوم مضى . دفن رأسه في صدري وشرع في بكاء مر متعب ، وقال لي بما تبقى له من صوت يخالطه البكاء : ( خبئيني !! ) .
***********
في المساء كانت المزرعة تنيرها كتلة لهب كبيرة ، ومن عمقها ينطلق صوت صراخ يمازجه الضحك ، تجمع الناس حول كلتة النار ، ولكن أحدا لم يحرك ساكنا ، كان الذهول يجمد حركة الجميع ، وهم ينظرون إلى ذلك الجسد الذي ينبعث منه اللهب ، وينكمش على نفسه وهو يضحك ، لابد أن الجميع رآه يومها يمد جناجية وسط اللهب ، ولولا أن أتى والده وصب عليه التراب ليطفئه ، لحلق أمام الجميع متحولا إلى طائر من نار ، ناثرا رماده على الارض، لينبت من كل ذرة منه نخله فخل ،لكن والده اطفأه .
تعاون الجيران على حمله وهم يتمتمون : ( الله يرحمه ، مات شهيد ، ريّح واستراح) ، وهناك من كان يردد : ( ما جايزة عليه الرحمة ، مات كافر )  ، ويرد عليهم آخرون : ( كان مجنون ، مرفوع عنه القلم) ، واعترض البعض على دفنه في "مقبرة المسلمين" حتى لا يقلق راحتهم الأبدية .
*********
لم يكن هو ذلك المسجى على النعش ، كان كل من ينظر إليه يتراجع في هلع ويصرخ : إنه حي!! . اخترقت تجمهر الرجال وأحاديثهم الساذجة ، وتزاحم الترحم واللعنات ، وجثوت أمام جسده المنصهر وأنا أصيخ السمع لهمسه الخفي.
مررت يدي على جلده المتفسخ ، وأنا أنتظر من أي الجهات سينيت ، ليغرس عينيه خنجرا في خاصرة الحياة وهو يضحك بعنفوان، تماما كما كان يضحك للموت وهو يحترق ، لكن شيئا لم يتحرك ، لم ينشق جلده عن ذلك الباشق الناري ، وبقي صامتا باردا .
**********
هناك حيث احترق ، كنت ألملم ما تساقط من جسده وأدسه في شالي، حين داهمني والده وجرني إلى هنا .
لقد رآني ألف جسده بليف نخلة الفحل ، وأضرم النار فيه.
أنا لم أقتله، بل هم من قتلوه، لقد أردت له أن ينغرس في أرجاء البلاد طولا وعرضا ، أردت له أن ينبت في كل زاوية من الأرض نخلة فحل، ليخرس عقم النخيل ، كان عليهم أن يتركوه يحترق ، ويذروا رماده للرياح لتبذر به الأرض .
*********
  حجرو منعزلة اسمنتيه ، تجلس على ارضها الترابية عجوز نحاسية الجلد ، تنفر العروق من يديها وتتوزع على وجهها وجسدها أخاديد غائرة . تعيد كل يوم ذات الحكاية منذ عشرين عاما. وتهرق الماء في حفرة إلى جانبها دفنت بها منذ سكنتها بعض الرفات.
لا نخلة فحل نبتت من الرفات ، لا طائر حط على نافذتها ، لا نارا أسطورية تشعلها
منذ عشرين عاما ، عجوز تنتظر النخيل ، وظل عارٍ يرتسم على حديد الباب.   

الــــــــــبـــــــــدايـــــــــــة


انــــــتــــــــهــــــــت

طفول زهران الصارمي 

الاثنين، 3 سبتمبر 2012

هدهدة

 
 

ينام صغيري
ليصحو على وضح الأغنيات
وأصحو ...
لأقرأ في مقليه الصلاة
صغيري ..
ستدرك عمرا بلا كلمات
ستدرك أن الليالي طوال
وأن النهار قصير
وعمري قصير ..
وأني رغم اصفرار الزمان
أراقص جرحي
بقلب من الفل والأمنيات
 
.......
 
صغيري ...
إذا اجترج النزف أنشودتي ...
                              وأخمد روحي هذا الشتات...........
وأصبحت عودا من الياسمين ...
                              يموت ليورثك الأغنيات ..............
تذكر بأنك أرض
زرعت عليها سهولا من الجمر
كي تنضج الأرض فيك
ويصبح قلبك هذا الوطن ...
وتكبر رغما بأنف الزمان ....
                          ويكبر في مقلتيك الوطن !
 
..................
 
صغيري ....
إذا ملت الأرض أصحابها ...
                            وباتت ككل المنافي سواء
ومات الشريف على تربها ...
                           وأصبح دم الحرائر ماء
وأخرجت الأرض أثقالها ...
                          وأغرقت الأرض في ذا البلاء.....
فزلزل عروش الطغاة بها ...
                        وأحرق بهم أرضهم والسماء .......
 
.....
 
صغيري ...
إذا القلب شاء الرحيل ...
                          وشد على العود هذا الوتر.....
وأطفأت قنديل ليل طويل ....
                           تأجج في الروح ثم انكسر.......
تذكر بأنك عمر جميل ...
                           وأنك للقلب كل العمر ........
فإن زار طيفي هذي النخيل ...
                            وصبح بلادي بات قدر.......
فرتل نشيدي عند الأصيل ...
                            لعلي أكون بأرضي  أثر ...
 
طفول زهران