ا
كان صباحا باردا جدا...
صباحات إمطي لا توقد النار ولا تعترف بالدفء ، تتشح بشالها الأخضر المرصع ببلور من الندى، ترسم الشمس بداخله ألوانا قزحية براقة.
أخذت مفتاح السيارة ورميت على كتفي شالا أصفرا وخرجت باتجاه بيت أحدى زميلات الدراسة في المرحلة الثانوية.
أوقفت السيارة تحت ظل شجرة ( القاوّ ) الكبيرة ، ومشيت عبر مزارع (حلة الرم ) وانا أحاذر أن تلتصق بملابسي تلك النبتة الفضولية الصغيرة ، كنا نحب العبث بها عندما كنا صغارا ، حين نخرج وكل بيده دلوه الصغير المميز بلونه لنملأه بما تساقط من بسر النخيل ، كنا نسميها ( بو مطبّاق ) ، ولا زلت لا أعرف اسما آخر لها
كان السكون يلف المكان .. لا أسمع سوى وقع خطواتي على التراب وصوت احتكاك العشب المبلل بتثيابي ، وصوت خرير ماء يأتي من أحدى السواقي البعيدة
توقفت أمام حجرة يتيمة لا يغطي جدرانها سوى ذلك الإسمنت الأغبر ،وخط أبيض من الكلس كونته مياه الأمطار منذ زمن أسفل المرزاب..
ساقية ماء صغيرة تمر من أمام الحجرة ... هناك تقف بشائر ، ترتدي عباءتها البسيطة وشالها الأخضر الباهت ، تتحدث إلى ثلاث عجائز غمسن أرجلهن في ماء الفلج الدافء ، تعلو وجوههن تلك السكينة التي يهبها الزمن لمن لم يتبق له سوى انتظار النهاية – الموت – ، وتلك التجاعيد الغائرة عميقا في وجوههن تحكي ملحمة لزمن مضى وأبقى بصمته الأبدية عميقا على المحيا.
اقتربت منهن وأنا ألقي السلام وتوجهت إلى العجائز الجالسات ، انحنيت لأصافحهن وأنا أمد كلتا يدي ، أتلمس بيمناي خطوط الأكف الخشنة المتشققة ، لا بد أنها آثار الحبال والمجز وإسفنج الغسيل أو ليف النخيل والتراب وكل شي مر على هذه الأيادي ... تسري قشعريرة باردة في أطرافي كلما لامست أناملهن الباردة يدي ... وعلى كفي الأيسر كانت تنطبع خريطة العروق المتشعبة التي تبرز في ظاهر يد كل منهن كلما ظممتها بين يدي ...
عند كل واحدة أتوقف طويلا وأنا محنية الظهر أنظر مباشرة إلى عينيها ولا أقوى على سحب يدي من قبضتها القوية التي اعتادت على العمل الشاق حتى تنهي جميع الاسئلة المعتادة المكررة : ( مو حالش ؟ .. مو حالها امش ؟ ... وحيانش واولادش كلهم بخير ؟ ) ... وأرد بتلقائة : ( الحمد لله كلهم بخير وعافية ما يشكيو باس ... بعدني ما متزوجة ماه ) ... تفتح عينيها بدهشة وترد : ( هوه .. عجب ذك ختش بو متزوجة بن خالتش ما انتيه ؟ ... عجب من انتيه ) ... أعود أرد عليها وأنا أرفع صوتي و أنحني لها أكثر لتسمعني بوضوح : ( هيوا ذك اختي العودة ... أنا بو أصغر عنها ) ... وترد بأسف : ( سامحيني امي ما عرفتش ... عجب انتيه بو مسافره أمريكا ؟ ... متى رجعتي ؟ .. بعيد الشر كيه حتى ما حد خبرني إنش جاية .. مو انتيه والغربة) ... وأرد بذات الأسلوب : ( بعيد الشر ماه ... كيه راجعه من 3 سنوات .. وبعدني لاقتنش في حولحول بنت سلام ومتغدين رباعة ... وا عدتي نسيانتني؟) ... ترد بضحكة مجلجلة أحبها : ( وابوي كيه ذك انتيه ؟ ... الله يصرفني ما عرفتش ... ماشي عدت عجوز هاهاهاهاها ) ... وأرد بحب :( معليه ماه مسموحة ) ... وتفك يدي حينها لأسلم على الأخرى ، فتعود لتسأل ذات الأسئلة بذات الأسلوب ....
أخذتني بشائر إلى تلك الحجرة المنعزلة ... خلعت نعلي أمام الباب فوق سجادة صغيرة مهترئة تحول لونها الأحمر إلى الأصفر والبني ، يغطي معظم أجزائها الطين ... بداخل الغرفة سرير منعزل عند الزاوية وكرسي خشبي متشظٍ أمام طاولة تقف عليها مرآة كبيرة أو شبه مرآه فقد أكل معظم أجزائها الصدأ ، وعلى الأرض فرش بساط بالٍ خرجت خيوطه وتمزقت..
جلسنا على الأرض الإسمنتية الباردة وتجاذبنا أطراف الحديث حول ذكريات الدراسة وأحوال الزميلات ... حين بدأ صوت أنين من الخارج يصل مسمعي .. توقفت عن الحديث وأطرقت أنصت لهذا اللحن الحزين ، وعندما تيقنت أنه صوت بكاء يأتي من الخارج ،سألت بشائر : ( هناك من يبكي في الخارج )
: نعم ... هذه جدتي
: لماذا تبكِ ؟
: تتذكر الأموات
وقفت وسرت إلى الخارج .. من حيث ينهمل ذلك الصوت المتهدج .. فتحت الباب بحذر ووقفت أمامه أصيخ السمع ، كان الصوت آتيا من الجانب الآخر للحجرة ، توجهت إلى هناك ، وتبعتني بشائر ..
تحت ظل النخلة الفارعة الطول ، كانت تجلس جدة بشائر ، تغسل ملاءات بيضاء في ماء الفلج ، تردد موالا حزينا تذكر فيه محاسن موتاها وتشكو فقدها وشوقها لهم ويتمها وغربتها بعدهم وتدعو الله أن يجمعها بهم ، يخنق صوتها المتحشرج البكاء وتجد الدموع طريقا سهلا تقطعه نزولا من خديها عبر الأخاديد التي حفرها الزمن عميقا في وجهها، وتغص السواقي هناك بالدموع ... ترفع يديها الراعشة لتعصر عينيها كلما ضاقت بها الدموع ، وتعود لتغسل ملاءاتها البيضاء ...
التفتت إلى بشائر ... : ( ماذا تفعل ؟ )
: ( كل يوم على هذه الحال ... إنها تغسل كفنها ... وتنشره تحت الشمس .. حتى إذا جف عادت في اليوم التالي لتغسله من جديد )
: ( لماذا تفعل ذلك؟ )
: ( كي لا يمن عليها أحد عند موتها بشيء .. هي جهزت كل شيء لنفسها ، الثياب والبخور والقطن والكافور .. وهذا الكفن ... تنتظر اليوم الذي تطوى فيه وتحمل على الأكتاف إليهم )
: ( الأموات ؟ )
: ( نعم !!! )
ودعت بشائر ، وعدت أدراجي وأنا أفكر كم أن الحياة مؤلمة حين لا يتبقى للمرء سوى أن ينتظر لحظة موته .. تذكرت بورخيس : ( أنا لا أخشى الموت ، لكنني أخشى الخلود ) .. حين يقول ذلك رجل عظيم كبورخيس ، ماذا يتبقى للبسطاء سوى الصمت وغسل الأكفان ...
ركبت السيارة ، وفكرة الخلود المرعبة تتملكني ، همست بقلب صادق : ( اللهم لا تردني إلى أرذل العمر ) ...
لا زالت إمطي باردة وبيتنا المخضر يضج بالحياة ، وكأن فكرة الموت لا تزعجه أبدا ، كما لا تزعجه فكرة الحياة ..
رائحة ورد شجرة ( الشريش ) الأبيض مبهجة في الصباح ، وورد الجلمور الأحمر يشي بدفء حميم ..
الحياة في إمطي فاتنة ...
لكنني ... أخشى الخلود ...
طفول زهران