الاثنين، 30 أغسطس 2010

رسالة إلى شاعر من صنعاء



لا أدري كيف يجب أن تكون البداية ... فهي دائما تحمل الكثير دون أن تبوح بشيء بالرغم من أنها تنطق كل مرة على عجل لتختفي دون أن يتاح لي أن ألتقط شيئا منها ....

منذ متى عرفتك؟ ... كنت يومها في الرابعة عشر من عمري عندما جمعنا ذلك الكتاب الذي وصفت لك غلافه القاسي بأنه يصطبغ بلون الربيع البديع , مغريا شهيا تلتهمه عيناي وقلبي قبلهما ...

أتذكره؟ ... كانت مصادفة ان عرضت أول مقطع فيه ( لقد جعلتني لا نهائيا .. تلك هي لذتك ) من ديوانه الأول ((جيتنجالي)) .. أتدري ؟؟! , لا زلت أجهل معنى هذه الكلمة, فقط أتلذذ بنطقها كلما كلما مرت علي , وأنا أتحسس طعم السكر بين شفتي ....

" لقد جعلتني لا نهائيا .. تلك هي لذتك " ... أجد صعوبة الآن في تذكرها , ملامحها ضبابية , بل ومعدومة في ذاكرتي المليئة بالثقوب والصدأ .. لقد هجرت طاغور منذ زمن بعيد .. طاغور , ذلك الشاعر الناسك الهندي , نفض عنه غبارقبره بعد 100 عام من موته ليجعلني أقول لك مصادفة : " لقد جعلتني لا نهائيا .. تلك هي لذتك " ...

قلت لي مرة :" الجروح تلتئم , أما الحروف فلا " .. هل تنزف حروفك الكثير ؟ , هلا لا زالت تنزف ؟؟ .. أخبرني! . هل تنزف حروفك من شفتيك الراعشتين للآذان , أم تنزفها أناملك حبرا أحمرا تضرج به الأوراق ؟ .. لماذا أسألك ؟ ... ماذا يهمني أن اعرف ؟ ... فحروفك تصلني من حيث لا أدري ...

أتذكر أن أخاك قال لك مرة : " اليأس هو زمن الخيانات العظيمة " كيف تأتى له أن يقول ذلك ؟ ... ألا يصيبك اليأس أحيانا ؟ .. كيف ألصق بنا أخوك تهمة الخيانة , وبنفسه أيضا ؟ .. لكنه محق يا شاعري فكلنا خونة ! ... نعم , اليأس هو زمن الخيانات العظيمة ....

أخبرني .. هل اشترت تلك الفتاة أغنية ( أنت الحب ) لأم كلثوم ؟ ... أما زال بائع الكاسيتات يشتهي ابتسانتها وهي ماضية على عجل ؟ ... أما زال يتوسل الدقائق كي يتوقف وهو يغري نفسه بثانية أخرى ليطبع تفاصيلها في مخيلته دون أن يسقط منها شي ؟ ... هل لو قيض لك رؤيتي لاستوقفت الزمن ايضا ؟ ....

أتذكر اتصالك الأول لي .. كنت عائدة بعد يوم طويل تكاد لا تحملني قدماي فيه من شدة الإجهاد .. ولجت غرفتي ورميت كل الكتب والأوراق التي كانت تنوء بحملها يداي على الطاولة , وارتميت على سريري ورحت في سبات عميق متعب . حين أيقظني رنين هاتفي وأنا لا أكاد أميز من صوته سوى صفير حاد مزعج . ولمحت رقما بلا هوية يتصل بي ... ألصقته بأذني بتثاقل وإعياء , ورددت وانا نصف نائمة : "مرحبا "

أتاني صوتك هامسا دافئا مضطربا كأنه مبعوث من عالم الغيب , وعوالم أخرة أجهلها : "مرحبا "

- نعم ... تفضل

- طفول .. ألست كذلك ؟

- بلى .. من معي ؟

- مطيع ... هكذا يدعونني

طارت كل الحمائم الساكنة في خلدي وتبعثرت في سمائي كما تتبعثر النجوم في سمائك الليلاء : "مطيع ؟ " ... هنا تعثرت الحروف بين شفتي , بعد ان اعتدتها سيلا دفاقا , أرى الأحرف تنضب وتجف أمام اسمك ...

لا أدري كم من الوقت بقيت صامتة أستمع لأنفاسك وأحس بحرارتها المنبعثة عبر الأسلاك تلفحني ....

حدثتني طويلا عن الألم , وبقيت أنا أستمع إليك مأخوذة بكلماتك التي اعتدت قراءتها على الورق , أما اليوم فصوتك يجعل منها سيمفونية تعزف الجمال بإيقاع متزن منساب , يجعلني أنزلق معه إلى عوالمه الخفية البديعة ... أتذكر ماذا قلت لي قبل أن تغيب , مخلفا إياي ثملة بحلم يقضة جميل ولذة عذبة :" صوتك مخملي عذب ... لم أتخيله بهذا الجمال " .... ورحلت ....

كيف يكون الصوت مخمليا؟ ... تعودت أن اتحسس المخمل على خدي , أمرغ في نعومته وجنتي وشفتي , فكيف تحسست صوتي وبيننا من المسافة والزمن ما لا أعلم , لتحكم على أنه كان مخمليا ... لم تقل يومها :"عيناك غابتا نخيل " , فأنت لا تعرف من عيني سوى ما يحمله لك بريق الأنجم في سماء صنعاء ....

لطالما حدثتني عن حبك للكتب ... لطالما صارحتك بأنني أغار منك , فلم أقرأ كتابا إلا وتكون أنت قد قرأته قبلي .. حتى رواية "وردة" لصنع الله إبراهيم .. التي تباهيت بقراءتها حال صدورها , كنت قد قرأتها قبلي , لماذا قراتها قبلي وهي تاريخي انا لا انت .. ما شأنك و (وردة) ... قلي ماذا لم تقرأ بعد؟ .. أي زخم معرفي هذا يستفزني ويصرخ بي زاجرا : أنت لم تفعلي بعد شايئا قط !! ....

أذكر غرامك بالأدباء الروس على رأسهم كازنتزاكيس ودوستويفسكي .. كم مرة حدثتني على قراءة كتاب (تقرير إلى غريكو ) لكازنتزاكيس ... كازنتزاكيس والأربع درجات التي قسم حياته لها : المسيح , بوذا , لينين , أوليس ... ورحلة دامية بين كل هذه الأرواح العظيمة , ما كان في تقرير إلى غريكوا , كل هذه الروعة التي عشتها انت , وانبعثت فيها أكثر من مرة , بدأتها أنا ولم أكملها حتى الآن . فقط وأدت نفسي فيها , منتظرة حشرا جديد ... قلت مغريا إياي لقراءته :" حلوة صحفاحتة كطعم الشيكولا " .. فأجبتك : " سأبحث عن الكتاب بحثا دؤوبا , على أنني لا أحب طعم الشيكولا , ولكنني سأرعى الشهد المنسل من بين صفحاته " .. ربما لو كنت أحب الشيكولا لكنت انهيت الكتاب ...

كان عتابك مؤلما جدا عندما قلت لي مرة أنني فقدت شغفي بالكتب ولم أعد أقرأ بغزارة كما كنت , ذلك أنني استغرقت ما يربو عن الستة أشهر في قراءة كتاب (رحلتي الطويلة من أجل الحرية ) لنيلسون مانديلا ؟.. لم تكن تعرف عندها أنني أعدت قراءة الكتاب أكثر من مرة واعددت ملخصا خاصا به خلال الستة أشهر التي غرقت فيها بين كلمات مانديلا –زهرة الربيع السوداء – ورائحة الطين الأفريقي والبارود الانجليزي....

وغبت مجددا يا مطيع ... حقا لا أدري أكان أنت من قرر الغياب أم أنا ... وبقيت أحمل معي ذاكرتي المهشمة المترعة بالحزن والألم ...

ثم فجأة وبعد ما يربو عن عامين , تصلني رسالة مقتضبة من سطر واحد مكتوب عليها : " كل عام وانت بخير طفول " ... تأملت الاسم طويلا , مكتوب باللغة الانجليزية –Mutee Dammaj - ... ارسلت لك رسالة مترددة جد مختصرة : "وأنت بخير ... مطيع دماج ؟ .... هل أعرفك؟ ... " .... كنت حتى اللحظة الأخيرة أحاول إقناع نفسي بأنه تشابه أسماء لا أكثر , إلى أن وصلتني رسالتك : " إن كنت طفول-شهد زهران , فأنا مطيع ,, وإن لم , فأنا اعتذر عن الازعاج ..."

ست سنوات حملت فيه اسم شهد الذي لا يعرفني به سواك , ليعود بعد كل تلك السنين ليقول لي انه انت !!! ....

مطيع .. أهذا انت حقا ؟؟؟!!! ............





الأحد، 29 أغسطس 2010

للذكرى رائحة


بالأمس ، وفيما كنت أطبخ اللحم للسحور جاء أخي الصغير وأخذ نفسا عميقا طويلا ، أغمض عينيه ، ثم تنهد وقال : ( الله ، أشم ريحة العيد) .. اليوم ، شيء مشابه حدث ، أتى مسرعا من الخارج وعيناه تتغتسلان ببريق جميل ، وصاح قائلا : ( طلعوا برا ، ريحة السيل قوية واجد ، اليوم بينزل مطر ) ...

قبل رمضان كنا نقول أيضا ، أننا نشم رائحته تقترب ..

عندما توفي جارنا وصديق الطفولة الجميلة كنت أختنق أيضا برائحة الموت ...

في الدفاتر نشم رائحة المدرسة ..
في الطين نشم رائحة المزرعة قبل 20 سنة

في شجر السمر أشم رائحة وادي إمطي
في الآس أشم رائحة جدتي
في الصندل أشم رائحة أمي

في الدم والدمع  أشم رائحتي

هكذا تعنون الذاكرة الروائح بالذكريات

هكذا يصبح للذكرى رائحة

الجمعة، 27 أغسطس 2010

نم


نم يا صغيريَ في أكاف أغنية
وانحت من الريح أحلاما على خزفي

نم يا صغيري أنا ما نمت من زمن
مذ فضّ ليلي نحيب الغيم والصدف

توسد الروح نزفا فوق خاصرتي
إني أموت على الأعتاب والشُّرَف

واجمع زواياي نايات محطمة
من الجحيم ، من اللاأين ، من غرفي

نم يا صغيري توسد صدر فانية
لا شيء صدري سوى سَعْفٍ على سَعَف

طفول زهران

الخميس، 26 أغسطس 2010

خنجر



لا يزال ذلك الخنجر المغروس في حنجرتي يؤلمني

كلما حاولت عبثا أن أبتلع ما تبقى من دماء متخثرة وصديد في فمي

نصله يتضخم ويزحف مستعمرا المساحات المتبقية منها

****

حين تبدأ عيناي بالذوبان

لن أقوى على رؤيتي انتحب

سأدفن نفسي فيما تبقى من الأشياء القديمة

وأضيف على عيني ما تبقى من الملح الذي اقترضته لأصنع به جبيرة لجروحي الصفراء

***

أيها الغامض البعيد

لا تتأخر

الموت مختوم على نصل خنجرك

أيها القطب المتجمد من روحي

لا زال بردك يخز عظامي كلما ناديت: يا انت

لا زال خنجرك مغروس بحنجرتي الراعفة

لكنني ... لا احتضر ...




طفول زهران



رعد



الآن ...

فيما تزمجر السماء غضبى

تفتح الأرض فاها وتختنق

فتمطر روحي ملحا

لا شيء من تلك التراتيل تعصمني ، إذ يلجم رئتي صوت اعرفه ، وتحتقن عيناي بالفراغ المخيف

أشتم رائحته قريبة جدا ، تعصف به الريح كلما أطبق ذلك العملاق الجاثم عند سفح الجبل جناحيه ، ودحرج بجبروته حجر الوادي العظيم ، لتشبه بيوض مخلوق خرافي..

أروقتي الضيقة وخنادقي الصغيرة مدججة بالانتظار ، ومعتصمة باللاجدوى

فيما ترمقني عيناه المشتعلتين من اعلى حيث اللا نهاية واللامكان ، حيث تزحف الدماء باتجاه الزرقة القاتمة ، ويلفض النور روحا أخرى عند قمتي ، وقمته

لا أجد  مساحات تتيح الصلاة لأجل المطر ، لأشرع صدري للطمه ، وقسوته اللذيذة ، ذات لحظة أجثو فيها نحو السماء المبتلة بي ، وبك

ايها الغاضب هناك ، حيث يحجبك العقيق ، هل تصلك صلواتي ؟
 انت يا من لا يجرؤ سواك على الصراخ في وجه الكون .. اعرني صوتك لأصرخ ، فمنذ زمن لا اذكره ، قبل بدء التاريخ ، قبل الخليقة ،  وقبلك ، هناك من سرق صوتي ، وزرعني في الصمت ..  هنا نبتُّ ولم أتعلم الأبجديه .. فأعرني أبجديتك كي لا أختزل في الغياب ، اعرني قوتك ليصل صوتي إليك ...

ثم .. هل ستأذن لمطر أن يغسل مدني المتشحة بهذا الصفير المخيف لخواء روحي ، وللكهوف والحفر المنتشرة في أرجائي ، إذ تستفزها الريح ، وانت...

أما أنا فلا أريد مطرا ليغسلني ، أنا بغضبك أغتسل ...

طفول زهران
26 \ 8 \ 2010

وبكت أمي


كالعادة كانت أمي تتابع برنامج (لبانة) باهتمام... ظهر ذلك العازف لآلة موسيقية قديمة أشبه بالمزمار ، يبعث ألحانا حزينة ، لا زالت تحمل معها رماد الزمن الغابر الذي عبرته لتصل إلى حيث هي.

حين استفزتها أختي بقولها : (( جميل ، بس هذا اللي يعزف واجد مزعج )) .

ارتجفت أمي كأنها أصيبت بصاعق كهربائي : (( كيف مزعج ؟ ، هذا أول يهلوبه العيد ، أخوي الله يرحمه يجلس يجهزه من تدخل العشورا ، ويطلعوبه في الجبل ، إمطي كلها تسمعه .. هذا أول يســـ .....)) وأختنق صوت أمي ، وتناثر البلور على وجنتيها .. غطت وجهها بيديها وانكمشت على نفسها تبكي كطفل صغير.

تذكرت صباح اليوم وفيما كنت استعد للصلاة ، استوقفني ذلك الاحساس الغريب بأن الزمن عاد للوراء .. الجدران خالية من الرسوم الزيتية ، رائحة طعام كانت أمي تعده ذا زمن بعيد ، عبق غريب يستفز الحنين والشوق ، شيء يشبه رائحة جدتي المغسولة ( بالورس والنيلة ) ، أو يشبه رائحة الدهان الزعفراني المعجون بماء ورد الجبل الأخضر الذي تلون به أمي جباهنا عندما كنا صغارا .. أحسست بأنه نبت لروحي جناحي فراشة ، وذهبت بعيدا ، بعيدا جدا ، كان مزيجا من السعادة والحزن والشوق والحنين والفقد ، كان انعتاقا ، كان فراقا ، كان ولادة ، كان يتما .. كان كل ما احسست به في زمن مضى. وكأمي المنكمشة على نفسها ، سجدت أبكي ، وأصلي للحنين والذاكرة .

لماذا إذن ضحكت وإخوتي ذات ليلة قمراء حتى الصباح ، ونحن نتذكر طفولتنا البريئة المغسولة بالحرمان واللاشيء ، لماذا ضحكنا في وجه الألم يومها؟! . حين كان ابي لا يستطيع شراء كرة لنا بسبب عوزه المادي ، وكيف كنا نحشو أكياس البلاستيك بملابسنا وورق ( البيذام ) لتكون كرة مؤقته ، يلاحقنا صراخ أمي وغضبها لأننا نتلف ثيابنا ونوسخها ..

يثير الآن اشمئزازنا وابتساماتنا أننا نلعب بدود المزرعة ، كنا نجمع الديدان السوداء المفلطحة ، التي ندعوها ( لسان الكلب ) ، يختار كل منا الدودة التي تعجبه ثم نصفها على الأرض ، ونقيم سباقا بينها لنرى أينا تسبق الدودة الخاصة به ، حتى الآن بعد 20 عاما مازلت لا اعرف اسم تلك الديدان وما زلت اطلق عليها ( لسان الكلب). كنا نستبدل الدمى بالخشب ونلبسها ما نختاره من الخرق البالية الملقاة في ( الصوار ) من سواقي المزرعة ، ونجعل من ورق الليمون والسفرجل سيارات مائية. كم ضحكت يومها لفرط بساطتنا حين كنا نلعب (الغميضة) في الليل ونغلق على أنفسنا أحدى غرف البيت الصغيرة ، لنربط عيني أحدنا ب ( وقاية ) أمي ذات الخيوط الملونة على أطرافها ، ثم بعدها نطفء المصباح كي نتأكد أكثر أنه لن يرانا ولن يمسك بنا ، ونلعب في الظلام. ضحكنا بعدد المرات التي شجت فيها حصاة طائشة رؤوسنا ، ضحكنا بعدد الجروح التي كانت تملأ أيادينا الصغيرة وأقدامنا الحافيه ، ضحكنا بقدر الدم الذي نزفنا.

ثم لا نقوى على إخفاء دموعنا وحبس أنفاسنا ونشيجنا أمام ذكرى جميلة تستفز الحنين ، وتثير الشجن.

أي سطوة غريبة للذكرى ، أي ضعف تبديه أرواحنا أمام زخم الذكريات المتنافرة المتمازجة ، غريبة أيتها الذاكرة المهشمة ، كيف تضحكنا آلامنا وتبكينا مسراتنا.



طفول زهران

4\8\2010