الخميس، 26 أغسطس 2010

وبكت أمي


كالعادة كانت أمي تتابع برنامج (لبانة) باهتمام... ظهر ذلك العازف لآلة موسيقية قديمة أشبه بالمزمار ، يبعث ألحانا حزينة ، لا زالت تحمل معها رماد الزمن الغابر الذي عبرته لتصل إلى حيث هي.

حين استفزتها أختي بقولها : (( جميل ، بس هذا اللي يعزف واجد مزعج )) .

ارتجفت أمي كأنها أصيبت بصاعق كهربائي : (( كيف مزعج ؟ ، هذا أول يهلوبه العيد ، أخوي الله يرحمه يجلس يجهزه من تدخل العشورا ، ويطلعوبه في الجبل ، إمطي كلها تسمعه .. هذا أول يســـ .....)) وأختنق صوت أمي ، وتناثر البلور على وجنتيها .. غطت وجهها بيديها وانكمشت على نفسها تبكي كطفل صغير.

تذكرت صباح اليوم وفيما كنت استعد للصلاة ، استوقفني ذلك الاحساس الغريب بأن الزمن عاد للوراء .. الجدران خالية من الرسوم الزيتية ، رائحة طعام كانت أمي تعده ذا زمن بعيد ، عبق غريب يستفز الحنين والشوق ، شيء يشبه رائحة جدتي المغسولة ( بالورس والنيلة ) ، أو يشبه رائحة الدهان الزعفراني المعجون بماء ورد الجبل الأخضر الذي تلون به أمي جباهنا عندما كنا صغارا .. أحسست بأنه نبت لروحي جناحي فراشة ، وذهبت بعيدا ، بعيدا جدا ، كان مزيجا من السعادة والحزن والشوق والحنين والفقد ، كان انعتاقا ، كان فراقا ، كان ولادة ، كان يتما .. كان كل ما احسست به في زمن مضى. وكأمي المنكمشة على نفسها ، سجدت أبكي ، وأصلي للحنين والذاكرة .

لماذا إذن ضحكت وإخوتي ذات ليلة قمراء حتى الصباح ، ونحن نتذكر طفولتنا البريئة المغسولة بالحرمان واللاشيء ، لماذا ضحكنا في وجه الألم يومها؟! . حين كان ابي لا يستطيع شراء كرة لنا بسبب عوزه المادي ، وكيف كنا نحشو أكياس البلاستيك بملابسنا وورق ( البيذام ) لتكون كرة مؤقته ، يلاحقنا صراخ أمي وغضبها لأننا نتلف ثيابنا ونوسخها ..

يثير الآن اشمئزازنا وابتساماتنا أننا نلعب بدود المزرعة ، كنا نجمع الديدان السوداء المفلطحة ، التي ندعوها ( لسان الكلب ) ، يختار كل منا الدودة التي تعجبه ثم نصفها على الأرض ، ونقيم سباقا بينها لنرى أينا تسبق الدودة الخاصة به ، حتى الآن بعد 20 عاما مازلت لا اعرف اسم تلك الديدان وما زلت اطلق عليها ( لسان الكلب). كنا نستبدل الدمى بالخشب ونلبسها ما نختاره من الخرق البالية الملقاة في ( الصوار ) من سواقي المزرعة ، ونجعل من ورق الليمون والسفرجل سيارات مائية. كم ضحكت يومها لفرط بساطتنا حين كنا نلعب (الغميضة) في الليل ونغلق على أنفسنا أحدى غرف البيت الصغيرة ، لنربط عيني أحدنا ب ( وقاية ) أمي ذات الخيوط الملونة على أطرافها ، ثم بعدها نطفء المصباح كي نتأكد أكثر أنه لن يرانا ولن يمسك بنا ، ونلعب في الظلام. ضحكنا بعدد المرات التي شجت فيها حصاة طائشة رؤوسنا ، ضحكنا بعدد الجروح التي كانت تملأ أيادينا الصغيرة وأقدامنا الحافيه ، ضحكنا بقدر الدم الذي نزفنا.

ثم لا نقوى على إخفاء دموعنا وحبس أنفاسنا ونشيجنا أمام ذكرى جميلة تستفز الحنين ، وتثير الشجن.

أي سطوة غريبة للذكرى ، أي ضعف تبديه أرواحنا أمام زخم الذكريات المتنافرة المتمازجة ، غريبة أيتها الذاكرة المهشمة ، كيف تضحكنا آلامنا وتبكينا مسراتنا.



طفول زهران

4\8\2010





هناك تعليقان (2):

  1. هلا

    موضوع أكثر من رائع ... لقد كان بمثابة (فلاش باك) لذاكرتي المدفونة إقشعر بدني وذرفت دمعا حين قرأته..

    شكرا جدا للموضوع الرائع

    كولآي

    ردحذف
  2. كنت هنا
    رائحة الورس منتشرة هنا كرائحة الغافة وقت ثمرها
    استمتعت بما دونتي
    ننتظر المزيد

    ردحذف