الأربعاء، 20 يوليو 2011

اي العوالم أصدق ؟؟


كان الليل جاثما على صدر المكان , والصمت يطبق على الزوايا المعتمة ، ويخنق الأصوات الفضولية التي تتجرأ على النظر في عين الظلمة الثقيلة ، كل شيء يتزعزع ويذوي منزلقا إلى قعرها الموحش اللا نهائي .
*******

أصابع قدم صغيرة تتسلل بحذر خارجة بتزامن مع صرير المزلاج الصدئ ، تتبعها عين محتقنه تسترق النظر . تدور في محجرها بتوتر لتجمع كل الجهات معا .
ظهر الجسد الضئيل من خلف الباب ، وتقدم خطوتين مرتبكتين متجاوزا العتبة الخشبية التي نخرت أطرافها الرمة ،  ونحتت عليها سواقيها ومغاراتها المتشعبة.

**********

النظرات الحائرة تتفحص الظلمة الفارغة التي تبتلعه وتحرره من الجاذيبة فيغدو معلقا في مساحات لا نهائية من الفراغ ، التي تدفعه إليها ريح تتمدد على ظهره وأطرافه وتلصق نفسها به بعناد لا يمل.
دوي الباب منغلقا خلفه أعاده إلى مكانه على بعد خطوتين فقط ، أحس بعظام صدره تتصافق ، وكأن الباب ضرب بكل ثقله على صدره الصغير.
التفت بفزع خلفه ليجد الباب موصدا ، التصق بالباب وحاول جاهدا الوصول إلى مقبضه النحاسي الخشن . حاول الوقوف على أطراف أصابعه ، ومد عضلات جسده الصغير ليلامس المقبض ، لكن بلا جدوى ، وكاد  أن يهم بالبكاء لولا أن تذكر عيني أبيه الناريتين وصوته الجهوري زاجرا إياه : " أصمت يا ولد .. البكاء للحريم " .
زم شفتيه كي لا يلفض البكاء المتزاحم في حلقه ، كحجر يتوسع ويسد مجرى تنفسه ، رغم أن أنفاسه المختنقة كانت تفلت منه مصدرة صوتا خفيفا من منخريه الصغيرين ، وسمح لدموع عينيه بالانسكاب.
عاد يتأمل الظلمة المخيفة التي لم تترك زاوية إلا وأطبقت عليها وصبغت بسوادها أرجاء المكان ، وعندها بدأت كل الأصوات المختبئة بالظهور وكأنها تنبهت لوجود كائن آخر في هذه الظلمة.
من البعيد المجهول تأتيه أصوات قطط غاضبة وكأنها تخوض قتالا شرسا .. نباح كلب بعيد جدا عن المكان .. رفيف ينطلق فجأة من أحد الزوايا فوقه مباشرة .. الحشرات التي تجوب الليل كعسس جريء تصدر هسيسا هامسا وتطلق صيحات متقطعة ، لا تجيد تضبط إيقاعها المرتبك.
فجأة ، وبمجرد أن أوصد الباب خلفه ، فغر الليل فاه وأوسعت ظلمته فم الفوضى ، وبات الصمت الثقيل  ضجيجا لا يحتمل.

********

سديم صوتي كثيف بدأ يجمع نفسه من كل الجهات ، يخفت ليعود هادرا أقوى مما كان.
أصاخ سمعه وأنصت بخوف لذلك الصوت الأجش الذي يضج به المكان ، وتذكر ما تقوله له أمه كل ليلة :" عليك أن تنام بسرعة ، فظلام الليل قادم ، إنه يلتهم الأطفال الذين لا ينامون". فيدس نفسه تحت غطائه ، ينكمش على نفسه ويغمض عينيه كي لا يلتهمه ذلك الوحش اليلي . حتى يخدره الخوف وينام ..
لكنه هذه المرة ، تسلل خارجا بعد نوم الجميع ، ولابد أن أمه كانت محقة ، فها هو ذلك الوحش القادم من قعر الظلمة يتقدم صوبه ليبتلعه ، لآنه  لم ينم.
التفت برعب صوب الباب ، وحاول جاهدا الوصول للمقبض .
ندت عن خوفه أنة مختنقة . أطبق يديه الصغيرتين على فمه ، وخالجه شعور مخيف أن لا بد انه دل ظلام الليل عليه بسبب الأنة التي أفلتت منه..

*********

ازدادت حدة الريح ، وتناهى إلى سمعه صوت سلاسل ثقيلة تُجر ببطئ يرزح لثقلها المكان .. أحس بثقلها يضغط على صدره ، ورف قلبه الصغير بخوف حبس أنفاسه.
تذكر ما قالته له جدته ذات مساء حين حاول استراق النظر من النافذة صوب العالم المظلم خارجها : " ابتعد يا ولد .. لا تنظر عبر النافذة في الليل .. فهناك ساحر يجوب الظلام يجر خلفه ضبعته التي يقيدها بسلاسل ثقيلة جدا .. فإن رأتك سترميك بجمر من فمها يحرق عينيك .. وإن كنت قريبا منها ، ستنقض عليك وتمزقك بمخالبها وأنيابها السوداء "
استولى الرعب عليه وأصبحت كل خلية في جسده ترتجف خوفا .
كان بحاجة إلى أكثر من يدين اثنتين ليبقي كل شيء محكم الإغلاق .. أذناه اللتان قادتا إليه تلك الأصوات المخيفة .... عيناه المهددتان بالحرق إن رأى ما لا يجوز له رؤيته .. وفمه الذي سيلحق به العار كرجل إن أطلق صوت بكائه المخنوق ، والذي سيشي به عند تلك الوحوش الليلة الضارية.
ظل واقفا في مكانه دون حراك ، ينتظر اللحظة التي يبتلعه فيها ظلام الليل ، أو تحرقه تلك الضبعة المخيفة ..

*******

مر الوقت ثقيلا على قلبه الصغير ، ولاحظ عندها أن الأصوات كانت ثابتة في أماكنها لا تتحرك .
حرر فمه من يديه الصغيرتين وطوق بهما عينيه .. فتح عينيه اللتين اغلقهما بيده وفرج بين أصبعيه السبابة والوسطى ببطئ ليرى إن كان هناك ما يتربص به .
تسلل نور خفيف إلى عينيه وبدى كل شيء واضحا أمامه ، وخفت حدة الظلمة.
أنزل يديه وأشرع عينيه لاكتشاف الزوايا المظلمة .
كل الأصوات لا زالت تتردد برتابة وملل .. لا وحوش في الجوار ... لا سلاسل .. لا ضباع ... ولا أعين جمرية .. لم يكن كل ذلك إلا حفيف الأشجار المنغرسة عميقا في كل الزوايا والأمكنة . وصوت الحصى الذي تدحرجه الريح كلما عصفت ..

*******

ضوء مربع انعكس على الأرض بجانبه . رفع رأسه ليرى أن البيت قد أشعلت أنواره ، وتناهى إلى سمعه نداءات قلقة تبحث عنه..
فتح الباب خلفه وظهرت أمه الخائفة الغاضبة :" أنت هنا؟ .. أيها الغبي .. ألم أقل لك أن ظلام الليل يلتهم الأطفال الذين لا ينامون .. كيف خرجت ؟" ، نظر إلى أمه بحزن ،  وفي عينيها انعكست كل الأكاذيب حول عالم مظلم مخيف لا يجوز اقتحامه ، وزُرعت في روحه الصغيرة الخوف من عالم لا يعرفه ، ولا يحق له معرفته .
خلال الساعات القليلة التي قضاها في حضن الظلمة اكتشف كم أن العالم هناك في الداخل أكثر رعبا من العالم المظلم هنا . وأنه ما كان يقتات هناك إلا الوهم والجبن والخوف من اللاشيء.
كان عليه أن ينام ليبقى سالما من كل الوحوش الليلية الوهمية التي تتربص به في كل الزوايا المعتمة إن تجرأ على اقتحام الظلمة..
شفتا أمه لازالت تتحرك وتتشنج بغضب ، لكنه ما عاد يسمعها ، لاشيء سوى صوت الليل العميق ..
أشاح بوجهه  صوب العتمة اللامتناهية ... سار بصمت بعيدا حتى ابتلعته الظلمة ، وتلاشى ..

طفول زهران

هناك تعليقان (2):

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. شكرا لك طفول على الابداع الرائع فدئما من يتتبع سيرتك الشعريه والمقالات الادبية يجد فيها الجديد والجديد تحياتي لك وانطلقي الى الامام دائما اتمنى لك التوفيق .

    ردحذف