الأحد، 3 يوليو 2011

مساء مبعثر

 ..

لم آخذ معي الخيميائي لأقرأه في طريق ذهابي للمدرسة كما تعودت .. مضيت بكتاب اللغة الانجليزية المقرر تدريسه لفتيات البلد ..
أتامل الأطفال على دراجاتهم السابحة .. ومجموعة أخرى يلعبون كرة القدم ويتحلق حولهم مجموعة من المشجعين .. يعفرهم التراب ، ويلعبون ببهجة كبيرة رغم حرارة الجو ..
لا يوجد أطفال على باب المدرسة كما تعودت ولا أي من طالباتي .. ربما لأنني متاخرة بعض الشيء ، رغم أنه لازال هناك 5 دقائق متبقية قبل موعد الدرس ..
طفل على زاوية الباب يتابع حركتي ، اقتربت منه وربت على رأسه وحييته : مرحبا صغيري .. كيف حالك ؟ ... لكنه ظل صامتا ولم يرد .. نظرت إليه ، ابتسمت له ودلفت إلى الداخل ..
طالباتي ال18 يفترشن ارض غرفة الفصل الصغيرة التي لا يستر عريها سوى بساط صغير .. طرقت الباب وبصوت مرح عال : السلام عليكم .. أخباركن الحلوات ؟ .. ومضيت اصافحهن واحدة واحدة وانا اردد اسماءهن : اخبارش  صفاء .. علومش راجحة .. حياش مارية .. امورش مها .. عاشت مريومة ..... حتى انهيت فلانة ال18 ..
وبدأنا ندرس .. وبين حين وآخر القي النكات ، أو القصص .. ورغم ذلك انتهينا اليوم قبل نصف ساعة من نهاية الوقت .. تصافحنا وخرجنا ونحن نتضاحك ونعلق على إحدى الشقيات الجميلات ..
لاحظت اليوم ان عناقد عنب جميلة معلقة في المضلة .. وقفت عندها قليلا ، ثم خرجت ...
الجو أغبر وريح خفيفة تعبث بالأشياء حولي ..
لم اتوجه شرقا إلى البيت ، بل ارتقيت الشارع صعودا ... إلى يميني حديقة ، او بقايا حديقة ، يلعب فيها الاطفال . وهناك ثلاثة اطفال يسكبون ماء الثلاجة العامة على ثيابهم ...
وصلت إلى باب حديدي أزرق .. قرعت الجرس ، وفيما أنا أنتظر اتصل أبي ، يخبرني عن حاسوبه الجديد الذي اختاره ..
لم يفتح أحد لي الباب .. لكني أسمع اصواتا في الفناء .. كان الباب مغلقا بطريقة معاكسة ، القفل الداخلي في فتحة القفل الخارجي .. فتحت الباب ، ودخلت ...
أربع عجائز يفترشن الارض تحت شجرة البيذام الصغيرة يحتسين القهوة المرة ، مع الرطب اللؤلؤي الجميل ..
اقتربت منهن : السلام عليكم ..
نهضت ثلاث منهن لاستقبالي ، عانقتني الاولى بحرارة ،وهي تسألني عن حال الأهل وحالي ، وكذلك فعلت الثانية والثالثة .. أفسحن لي مكانا قرب الجدة التي لم تستطع الوقوف .. جثوت امامها ، وعانقتها : أخبارش ماه ؟ .. كيف صحتش .. مو انتيه والزمان ؟ ...
وترد بصوت متحشرج عميق : بخير أبوي .. هذي حالتي .. الحمد لله
وتسألها أحد العجائز : عرفتيها من هذي ؟
تنظر لي بتمعن وترد : لا ما عرفتها
أنحني لها وأرد : ماه انا طْفول .. ما عرفتيني ؟
تبتسم ، وتغوص عيناها : طفول بنت زهران ؟
ابتسم واعود لاحتضانها : هيّة ماه .. بنت زهران ...
تدمع عيناها وتعصرها بطرف وقايتها الداكنة : اعرفش امي .. _ ثم توجه كلامها للعجائز بجانبها – أعرفها ، لكن من سنين ما جات عندنا  ..
وتعود لتسالني ؟ : جاية وحدش ؟ .. من هين كذاك جاية؟ ..
جلست وتحلقت حولي العجائز وتسامرنا ، كل واحدة تنتقي لي حبات الرطب من سلتها، ثم تصب لي قهوة من دلتها ...
وانا أكابر غصة خانقة .. هذا النقاء ، كم أفتقده ... !!
خرجت من عندهن ، ورافقتني إحداهن حتى الباب الحديدي الأزرق ، وهي تردد عبارات الدعاء والنصح : تباصري امي قدامش الرحمن ، تماهلي عن الطريق ، الله يرزقش ويوفقش ...
وأنا اتمتم بالتامين والشكر ...
عدت في طريقي ، لكني انحرفت عن طريق البيت .. هناك من كان يجب علي زيارته .. مضيت في زقاق صغير يتوسط بيوتا ومزرعة مسورة بشباك حديدية ..
وقفت تحت أحد أشجار الشريش أمام باب حديدي اخضر .. لم أقرع الجرس ، ولم اطرق الباب .. دفعت الباب الحديدي ودلفت إلى الداخل ... لازالت شجرة البيذام الكبيرة تتوسط حوش البيت .. معلقة على احد أغصانها حجلة فخارية لا زالوا يستخدمونها حتى الآن لتبريد الماء .. وإلى اقصى اليمين شجرة سفرجل كبيرة تحتها قفص حمام اخضر كبير ... وأرجوحة صغيرة ...
هناك طفل صغير يلعب بالتراب قرب القفص : كيفك بابا ؟ ... عمتي هنا ؟
وأجاب بطفولة وبراءة جميلة : داخل ...
توجهت للباب الخشبي المفضي لداخل البيت .. طرقته ودفعته دون أن أنتظر ردا : هود هود .. السلام عليكم .. عموووه ؟ ...
تتوجهت إليّ طفلة صغيرة .. سلمت علي .. اهديتها قبلة صغيرة على خدها : وين عمتي حبوبة ..
اجابت بخجل : في المطبخ .. ..
وتوجهت إلى المطبخ ... وجدتها هناك منهمكة في عمل فطائر للعشاء .. عانقتها من خلفها : عموه
التفتت نصف التفاتة ، ما يسمح لها عناقي بذلك : طفول .. كلّي حرّ .. طلعي من المطبخ ريحة الأكل بتجي ف ثيابش ..
حررتها من ذراعي : جاية اسلم عليش وأروح
قالت وهي ترش السمسم على وجه الفطائر : والله ما تروحي قبل عن تتقهويي
قلت وأنا أفتح الثلاجة وأفتش هنا وهناك في زوايا المطبخ الصغير جدا : خلا عجب ، مستعجلة واجد ، باية أروح عند أمي زيادة اشوف صوغة بنتها ، هين قهوتش ؟ ..
بسرعة كبيرة كانت هناك دلة وسلة رطب وصحن شمام على صينية صغيرة
جلسنا قرب باب الشباك المفضي للمزرعة ، وتجاذبنا أطراف الحديث الودي الجميل .. استأذنت بعدها وخرجت ، ورافقتني عمتي حتى الباب الحديدي الاخضر ...
سرت متوجهة إلى بيتنا .. وعلى بعد قريب منه وقفت أمام باب بيت أخر ، وقرعت الجرس .. هذه المرة وقفت انتظر من يفتح لي الباب .. وفيما انا أنتظر ظهرت من البيت المقابل عمتي الأخرى والبيت الذي بجواره جارتنا صديقة امي .. توجهت إليهن .. تصافحنا وتعانقنا وتعاتبنا بعض الشيء على الغياب الطويل .. فيما فتحت الباب الذي كنت اقرع جرس بيته جارتنا الأخرى فانضمت إلينا .. وقفنا نتحدث قليلا على جانب الطريق وكلما مرت سيارة يزمر لنا صاحبها فنرفع ايدينا اليمنى ردا للسلام .. وبعدها تفرقنا .. وذهبت أنا برفقة الجارة التي كنت اقرع جرس بيتها ...
دخلنا معا للبيت وسألتني : عجب هين امش ؟
قلت ممازحة : مو يعني ما أسدش انا ؟
ضحكت الجارة الطيبة : تكفي وتوفي
دخلنا البيت .. وهناك جاءت العروس للسلام علي .. كانت زميلتي أيام الدراسة الثانوية .. أخرجت الذهب الذي اشترته لعرسها لتريني إياه كما جرت العادة .. وكنت أردد العبارات المعتادة : ما شاء الله .. ملبوس العافية .. زواجة دنيا وآخرة ...
وهي تؤمن على كلماتي ...
تحدثنا عن النصيب والعرس والزواج .. والأطفال ومسؤولياتهم ..
في طريق عودتي .. كل شيء كان كما تركته قبل ساعتين .. الأطفال على دراجاتهم السابحة .. الأشجار تتهادى على عزف الريح .. السماء بنية مغبرة ... والعصافير تصدح بصخب ...
لكنني لم اعد كما تركتني قبل ساعتين .. كان هناك ما تغير
كان هناك ما تبعثر

طفول زهران

هناك تعليق واحد: