الأحد، 27 مارس 2011

حكاية النار

1

كان كل ما يحيط به أغبرا ، أرض قاحلة تمتد بلا انتهاء . وعواصف عاتية تثير زوابع الغبار والدخان المتصاعد من كل اتجاه .
بين كل ذلك كان يقف أبوها وحيدا وبيده بندقية ، شاخصا ببصره نحو الطائرات التي تمشط الفضاء كأسراب من الجراد ، وفي عينيه المحتقنة تنعكس آلاف الحرائق ، تنصهر وتنسكب حمراء تختفي في لحيته الكثيفة المشتعلة بالبياض ، يهتف ، وعروق جسده المنتفض نافرة من الغضب : "ليتني كنت معهم " ولا يني يرددها كأهزوجة موت أحمر .
أيقضها من نومها قلق وخوف لم تشعر به من قبل، فكلما أغمضت عينيها تنزلق إلى هوة الحرائق المشتعلة في عينيه ، وتغرق بطوفان الدموع المتجمعة على ضفافها.
حارت فيما تفعل، لتخفف من حدة الخوف الذي يجتاحها وذلك الإحساس المؤلم بالضيق وكأن يدا تضغط على قلبها بقسوة لتوقفه عن الخفقان، رغم أنه كلما نبض تصافقت عظام صدرها من شدته.
خطت على الأرض الباردة التي تلسع قدميها الحافيتين ،... فتتصاعد البروده حتى صدرها وتتشنج عضلات رقبها وفكيها وتصطك أسنانها، فيزداد الألم ، وتحيط نفسها بذراعيها ولكن بلا جدوى ...
التقطت شالا بنيا عريضا ملقا على أرضية الغرفة ، لفت به نفسها ، ووجدت نفسها تقف باتجاه القبلة . وقفت طويلا تفكر فيما عليها أن تفعل ، وتساءلت : هل عليها أن تصلي؟
تلفتت حولها خجلا من أن يراها أحد تصلي في هزيع الليل، كانت قد تشربت الكثير من روح والدها المتمردة، فهي ابنه رجل لم يؤمن بالصلاة ، لم يؤمن إلا بالبندقية والكتاب ،و لم يقرأ القرآن، قرآنه كان البيان الشيوعي لماركس، حتى بلغ الخمسين ووقع مصادفة على آية حولته من اليسار الشيوعي إلى اليسار الإسلامي. لكنها لم تتأثر به بعد الخمسين ، بدى لها رجلا خائفا ومسالما، بعيدا عن كل ما غرسه فيها من ثورة وتمرد.
وفكرت ، ماذا عليها أن تسمي هذه الصلاة ، فهي لم تقم الليل من قبل ، ولابد أن هذه الصلاة ليست كذلك ، لم تتوجه إلى الله بدعاء يوما، وكان يخجلها أن تركع الآن لاجئة إليه أن يخفف عنها أعاصير الخوف التي تجتاحها، حارت كيف تصوغ كلمات الدعاء وبماذا عليها أن تبدأ...
حدثتها أمها ذا مساء ماطر بدموعها بعد يأسها من نصح الأب العاصي أن يصلي : نعم، صلى والدك بخشوع وصدق مرة واحدة ، حين رأى في الحلم أنه يذبحك ، ولم أره يصلي بعدها.
لا بد أنه دعى يومها أن يبعث الله له ذبحا عضيما - كما فعل النبي إبراهيم - ، كي لا يضطر لذبح ابنته ... لو خيرها ، لما كانت لتقول ( يا ابت افعل ما تؤمر ، ستجدني إن شاء الله من الصابرين )، كانت ستهز كتفيها بلا مبالاة وتقول : افعلها وخلصني!!
كل ذلك كان يستنفر الدموع في عينيها، ويخنقها نشيجها الصامت، وقررت أن تسجد طويلا...
 أخبرها والدها - بعد الخمسين- مرة أنه يشعر بأن الله يتعامل معه كصديق حميم ويمد له يد المساعدة في كل شيء ، لكنها لم تشعر بذلك من قبل ، فطوال السنين الماضية كان يحدثها عن ماركس ولينين وجيفارا ، عن الثورة والغضب والكفاح ، ساعات طويلة كلما سنح الوقت ليكونا لوحدهما ، لذلك ماعادت تستسيغ حديثه الآن عن الله ومحمد النبي ، رغم انه كلما تحدث بأسلوبه المؤثر عنهما تشعر بحب كبير تجاههما ، ربما لانهما حققا سكينة لروح والدها التي لم تعرف السكينة طوال خمسين سنة.
وهمست في سجودها الطويل : ( اللهم اجعل الموت راحلة لي من كل شر ).
صعقها أن تدعوا بذلك ، وكأنها تقول بطريقة أخرى : إفعلها وخلصني ..
ضلت منكبة على جبينا ودموعها الغزيرة يستدرها ألم خفي أن لا مغفرة ولا راحة ترتجى، وأنها مثقلة جدا بالذنوب ومغرقة البخطايا، ولا وقت لديها لتبلغ الخمسين حتى تصلي.
مر زمن طويل على حالها، حتى شعرت بأنها جد منهكة ومخدرة، وكأن الأرض امتصت كل طاقتها، نهضت من سجودها وسارت وهي تترنح صوب الباب المفضي إلى خارج غرفتها ، لكنها تراجعت في هلع حين رأت وجهها على المرآة المعلقة بالباب.. ، كان جبينها مضرجا بالدماء ومعظم وجهها مصطبغ بلون الدم القاني ، .. تفحصت وجهها ، لا أثر لأي جرح ، ولا مبرر للنزف ..، شالها البني كان مثقلا بالدماء المتخثرة عليه ، وفي الأرض حيث سجدت بقعة كبيرة من الدماء .
وانكفأت على نفسها عند زاوية الباب ، ما كانت الدموع لتغسل ذنوبها ،  ولا الدماء تستطيع ، ولا شيء آخر ، سوى الحرائق التي رأتها في عيني والدها ..
.أغمضت عينيها ، واستسلمت هذه المرة  لانزلاقها إلى القعر المظلم للحرائق المشتعلة في عينيه ..

طفول زهران

السبت، 19 مارس 2011

تفاصيل الرحيل



رغم صخب المكان ، لازالت هناك زواية صامتة جدا ، مزروعة في الحزن ، ومغسولة بعبق النسكافيه الصباحية وعطر العود...

الالتفاتة اليتيمة من خلف الكتف الأيمن ، لا تعيد ملأ الفراغ الموحش ..

الممرات الآن لم تعد معطلة بحشد الفتيات اللاتي كن يتسابقن نحو المقاعد الثلاثة التي تحتمل المنغرسين عليها تباعا حتى يوقف الصخب دوران المفتاح في قفل الباب عند الخامسة ...

لا زال هناك صدى هامس للضحكات الأخيرة ، والكلمات المخجلة التي تتردد في أكثر الأماكن انزاواءا وعتمة...

طرقات الأصابع المترددة لا تزال دافئة على صدر الباب البارد ...

تلك العينين الحزينتين ما عادت تضيء ظلمة المكان .. كل التفاصيل الصغيرة مغسولة بحزن الرحيل ولونه الغسقي الباهت ، وتنزلق بهدوء إلى قعر الصمت المخيف ...

الرفوف التي كانت مثقلة بالكتب والمجلدات والأوراق المبعثرة ، وجد الغبار مستقرا عليها وسكن مفترشا بانتظام ذلك السطح الأسود الفارغ، الموشوم بعناوين لا تنمحي ...

الطاولة باتت مرتبة وهادئة .. ومتشحة بالنعاس ، ما عادت تكتسي بالفوضى والأوراق المبعثرة بلا انتظام على سطحها ...

 هالة الجسد الفارع خلفها بدأت تتلاشى وتختفي ،  وبدأت هالة أخرى من الحزن واليتم يحيك الزمن خيوطها ترتسم هناك ... وبدأت معها قصة أخرى للألم والمنفى ...

اندفع الباب بعنف وارتطم بالجدار الأبيض خلفه ...

شخص آخر تربع على ذلك الكرسي الجلدي ،.. لحيته الكثيفة تتدلى حتى صدره..

رسم ابتسامة صفراء على وجهه ،  وأشار لها بالجلوس ، ترددت كثيرا قبل أن تلج إلى عالم ما عادت تعرفه، وفقد كل دفئه القديم .. كل هذا الهدوء والترتيب والنظام لا يليق بمكان كان الجنون يحكم كل شيء فيه...

بدأت حديثها باقتضاب : نريد عمل مشروع صغير.
جاء الجواب سريعا : صعب جدا.
أرادت تفادي أي طريق يوصلها للجدال : سأقوم بتحمل كل التكاليف المادية، فقط أريد الموافقة عليه.
رد بذات البرود : لا يمكن، إنها قضية مبدأ
وتساءلت في ضميرها : أي مبدأ؟؟؟
وأردفت بإصرار : أنا مصرة ، يجب أن اقوم به
ترك القلم الذي كان يعبث به ونظر إليها ، في حين أنها كانت تنظر للحيته الطويلة التي تتهتز كلما تحدث : لسنا بصدد أن نتحدى بعضنا..

صمتت طويلا، واستجرت نفسا عميقا ، وتذكرت كم كان المستحيل سهلا في وجوده ، لكنه حين رحل أصبحت كل الممكنات السهلة ، أحلام صعبة التحقيق بعيدة المنال ، لأن الخائفين أخذوا أماكن المجانين.

ولأن كل الكلمات باتت عقيمة بلا معنى أمام عقل متحجر لا يريد أن يفهم ، لملمت شتاتها وأحلامها المبعثرة ، وتذكرة باهتة للسفر إلى أقسى المنافي القصية عن دفء الأرواح الحبيبة.. وخرجت غائمة الروح والعينين ،  تخنقها غصة مؤلمة وإحساس مر بالخذلان ..

لا زالت روحها ترزح تحت وطأة الغياب .. ولا زال رحيلة أقسى من أن يحتمل ، حتى بعد كل ذلك الزمن الطويل ، غيابه يتم آخر .. وكل الأماكن دونه مناف لا تحتمل .....

طفول زهران



الثلاثاء، 15 مارس 2011

حتى لا تفقد الكلمات الجميلة معناها

1

في حديث ساخر مع أحدا لأصدقاء قلت: فلنشرب حليب الدجاج ونأكل بيض البقر...
قال معلقا:إذا استطعنا حلب الدجاج فمن يستطيع إجبار البقر على أن تبيض ؟؟؟؟ !!!!
فقلت: سهلة .. نعتصم أمامها حتى تبيض ، كل ما هو غير معقول بات ممكنا الآن ، عليك بالاعتصام !!!! ...

نعم .... قد يبدو حوارا سخيفا جدا .. وخاليا من أي قيمة أو معنى
 ..
تذكرت ماقاله أستاذي التونسي في مادة تحليل الخطاب ..حين كنا نتحدث حول موضوع غريب أيضا .....
ما هو تأويل كلمة ( التفاحة ) في أحد العبارات ،  وكيف تصبح هي القيمة الأكبر في الخطاب الذي نحلله .. وبدأ الطلبة بالتأويل ، هناك من أشار لتفاحة آدم ، وتفاحة نيوتن ،  وتفاح كثير جئنا على ذكره .. وحين جاء الأستاذ على إيضاح عدم إمكانية اعتبار بعض الاحتمالات لأسباب محددة  علق أحد الطلبة قائلا : ( كيف ما ممكن؟ .. بنطلع اعتصام )
تضاحك الطلبة ، لكن الأستاذ ابتسم بأسى كبير وأطرق ، وضل صامتا طويلا ، ثم ندت عن صدره آه وتفحص وجوهنا ثم قال : أخشى ان ما يحدث سيجرد الكلمات الجميلة من معانيها....
اعتصام ، ثورة ، مظاهرة ، كل هذه الكلمات باتت تستخدم في صنع النكت والطرائف ، وفقدت معانيها الإنسانية الجميلة...

في الجامعة يعتصم الطلبة ويطالبون بالنجاح !!!! .. لماذا ؟ ... لأنهم دفعوا مبلغا لذلك، وهذا يكفي لينجحوا !!!! ..
يعتصم الطلبة لأجل أن لا يحتسب الغياب ولا يحاسبوا عليه .. لماذا ؟ ... ( والله دافعين فلوس ، ما من جيبهم يدرسونا ) ...
باختصار : ( نطالب بالمساواة بين الفاشل والمجتهد .. بين المهمل والجاد .. بين من جاء ليدرس ،  ومن جاء ليشتري (شهادة)!!! ... طيب ليش ؟ .... والله دافعين فلوس !!!! ) ... بهذا المنطق يتحدث الطلبة الجامعيون ،  ولأجل ذلك يعتصمون ...
وأكاد لا أستوعب كل ما يحدث ...

نعم من حق الجميع أن يخرج ليقول بصوت مسموع ( أريد حقي ) ، ليس هناك من أحد يملك حق لجم الأفواه ...
ولكن .. أرجو أن لا تفقد الكلمات الجميلة ما تبقى من معانيها !!!!!

كنت قد قررت أن أبقى بعيدة عن كل ما يحدث ، لكنني أشعر أنني أعتصر ...

أشعر أن روح هذا الوطن تئن .....
وأنينها يؤلمني .....





الجمعة، 11 مارس 2011

ذبابة الHR



طقطقة لوحة مفاتيح الحاسوب تعلو من مكتبه ، ونظارته الكبيرة التي تغطي نصف وجهه تعكس جدول البيانات الذي يعمل عليه...

توقف فجأة وبدأ يحرك عينيه صوب سطح مكتبه اللامع البالغ الترتيب...
أمسك رزمة أوراق كانت بجانبه , ورفعها بحذر وبطء شديد، وهو ينظر من أعلى النظارة المنزلقة حتى طرف أنفه ، وهوى بها فجأة على الطاولة ،,,,
صوت ارتطام الورق بالطاولة أقلق السكون المطبق على المكان....
علت وجهه ابتسامة نصر، ورفع الورق ونظر إلى بقعة الدم الأسود للذبابة التي هرسها بضربته القوية....
نفض الورق وأعاده إلى مكانه....

جدول البيانات الذي ينعكس على نظارته تمدد  ليغطي ملامح وجهه...

أصابعه التي تتحرك بجنون على لوحة المفاتيح أصبحت تخطئ الحروف وتكتب طلاسم أخرى على الجدول المطبوع في وجهه.....

صوت لوحة المفاتيح يخفت حتى ينعدم تماما.....

جدول البيانات مطبوع على وجهه ، وذبابة صغيرة تحوم بهدوء فوقه - تحط على زاوية قصية من خده الأيسر ، وتضع نقطة لنهاية السطر....

طفول زهران