السبت، 19 مارس 2011

تفاصيل الرحيل



رغم صخب المكان ، لازالت هناك زواية صامتة جدا ، مزروعة في الحزن ، ومغسولة بعبق النسكافيه الصباحية وعطر العود...

الالتفاتة اليتيمة من خلف الكتف الأيمن ، لا تعيد ملأ الفراغ الموحش ..

الممرات الآن لم تعد معطلة بحشد الفتيات اللاتي كن يتسابقن نحو المقاعد الثلاثة التي تحتمل المنغرسين عليها تباعا حتى يوقف الصخب دوران المفتاح في قفل الباب عند الخامسة ...

لا زال هناك صدى هامس للضحكات الأخيرة ، والكلمات المخجلة التي تتردد في أكثر الأماكن انزاواءا وعتمة...

طرقات الأصابع المترددة لا تزال دافئة على صدر الباب البارد ...

تلك العينين الحزينتين ما عادت تضيء ظلمة المكان .. كل التفاصيل الصغيرة مغسولة بحزن الرحيل ولونه الغسقي الباهت ، وتنزلق بهدوء إلى قعر الصمت المخيف ...

الرفوف التي كانت مثقلة بالكتب والمجلدات والأوراق المبعثرة ، وجد الغبار مستقرا عليها وسكن مفترشا بانتظام ذلك السطح الأسود الفارغ، الموشوم بعناوين لا تنمحي ...

الطاولة باتت مرتبة وهادئة .. ومتشحة بالنعاس ، ما عادت تكتسي بالفوضى والأوراق المبعثرة بلا انتظام على سطحها ...

 هالة الجسد الفارع خلفها بدأت تتلاشى وتختفي ،  وبدأت هالة أخرى من الحزن واليتم يحيك الزمن خيوطها ترتسم هناك ... وبدأت معها قصة أخرى للألم والمنفى ...

اندفع الباب بعنف وارتطم بالجدار الأبيض خلفه ...

شخص آخر تربع على ذلك الكرسي الجلدي ،.. لحيته الكثيفة تتدلى حتى صدره..

رسم ابتسامة صفراء على وجهه ،  وأشار لها بالجلوس ، ترددت كثيرا قبل أن تلج إلى عالم ما عادت تعرفه، وفقد كل دفئه القديم .. كل هذا الهدوء والترتيب والنظام لا يليق بمكان كان الجنون يحكم كل شيء فيه...

بدأت حديثها باقتضاب : نريد عمل مشروع صغير.
جاء الجواب سريعا : صعب جدا.
أرادت تفادي أي طريق يوصلها للجدال : سأقوم بتحمل كل التكاليف المادية، فقط أريد الموافقة عليه.
رد بذات البرود : لا يمكن، إنها قضية مبدأ
وتساءلت في ضميرها : أي مبدأ؟؟؟
وأردفت بإصرار : أنا مصرة ، يجب أن اقوم به
ترك القلم الذي كان يعبث به ونظر إليها ، في حين أنها كانت تنظر للحيته الطويلة التي تتهتز كلما تحدث : لسنا بصدد أن نتحدى بعضنا..

صمتت طويلا، واستجرت نفسا عميقا ، وتذكرت كم كان المستحيل سهلا في وجوده ، لكنه حين رحل أصبحت كل الممكنات السهلة ، أحلام صعبة التحقيق بعيدة المنال ، لأن الخائفين أخذوا أماكن المجانين.

ولأن كل الكلمات باتت عقيمة بلا معنى أمام عقل متحجر لا يريد أن يفهم ، لملمت شتاتها وأحلامها المبعثرة ، وتذكرة باهتة للسفر إلى أقسى المنافي القصية عن دفء الأرواح الحبيبة.. وخرجت غائمة الروح والعينين ،  تخنقها غصة مؤلمة وإحساس مر بالخذلان ..

لا زالت روحها ترزح تحت وطأة الغياب .. ولا زال رحيلة أقسى من أن يحتمل ، حتى بعد كل ذلك الزمن الطويل ، غيابه يتم آخر .. وكل الأماكن دونه مناف لا تحتمل .....

طفول زهران



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق