لا أدري كيف يجب أن تكون البداية ... فهي دائما تحمل الكثير دون أن تبوح بشيء بالرغم من أنها تنطق كل مرة على عجل لتختفي دون أن يتاح لي أن ألتقط شيئا منها ....
منذ متى عرفتك؟ ... كنت يومها في الرابعة عشر من عمري عندما جمعنا ذلك الكتاب الذي وصفت لك غلافه القاسي بأنه يصطبغ بلون الربيع البديع , مغريا شهيا تلتهمه عيناي وقلبي قبلهما ...
أتذكره؟ ... كانت مصادفة ان عرضت أول مقطع فيه ( لقد جعلتني لا نهائيا .. تلك هي لذتك ) من ديوانه الأول ((جيتنجالي)) .. أتدري ؟؟! , لا زلت أجهل معنى هذه الكلمة, فقط أتلذذ بنطقها كلما كلما مرت علي , وأنا أتحسس طعم السكر بين شفتي ....
" لقد جعلتني لا نهائيا .. تلك هي لذتك " ... أجد صعوبة الآن في تذكرها , ملامحها ضبابية , بل ومعدومة في ذاكرتي المليئة بالثقوب والصدأ .. لقد هجرت طاغور منذ زمن بعيد .. طاغور , ذلك الشاعر الناسك الهندي , نفض عنه غبارقبره بعد 100 عام من موته ليجعلني أقول لك مصادفة : " لقد جعلتني لا نهائيا .. تلك هي لذتك " ...
قلت لي مرة :" الجروح تلتئم , أما الحروف فلا " .. هل تنزف حروفك الكثير ؟ , هلا لا زالت تنزف ؟؟ .. أخبرني! . هل تنزف حروفك من شفتيك الراعشتين للآذان , أم تنزفها أناملك حبرا أحمرا تضرج به الأوراق ؟ .. لماذا أسألك ؟ ... ماذا يهمني أن اعرف ؟ ... فحروفك تصلني من حيث لا أدري ...
أتذكر أن أخاك قال لك مرة : " اليأس هو زمن الخيانات العظيمة " كيف تأتى له أن يقول ذلك ؟ ... ألا يصيبك اليأس أحيانا ؟ .. كيف ألصق بنا أخوك تهمة الخيانة , وبنفسه أيضا ؟ .. لكنه محق يا شاعري فكلنا خونة ! ... نعم , اليأس هو زمن الخيانات العظيمة ....
أخبرني .. هل اشترت تلك الفتاة أغنية ( أنت الحب ) لأم كلثوم ؟ ... أما زال بائع الكاسيتات يشتهي ابتسانتها وهي ماضية على عجل ؟ ... أما زال يتوسل الدقائق كي يتوقف وهو يغري نفسه بثانية أخرى ليطبع تفاصيلها في مخيلته دون أن يسقط منها شي ؟ ... هل لو قيض لك رؤيتي لاستوقفت الزمن ايضا ؟ ....
أتذكر اتصالك الأول لي .. كنت عائدة بعد يوم طويل تكاد لا تحملني قدماي فيه من شدة الإجهاد .. ولجت غرفتي ورميت كل الكتب والأوراق التي كانت تنوء بحملها يداي على الطاولة , وارتميت على سريري ورحت في سبات عميق متعب . حين أيقظني رنين هاتفي وأنا لا أكاد أميز من صوته سوى صفير حاد مزعج . ولمحت رقما بلا هوية يتصل بي ... ألصقته بأذني بتثاقل وإعياء , ورددت وانا نصف نائمة : "مرحبا "
أتاني صوتك هامسا دافئا مضطربا كأنه مبعوث من عالم الغيب , وعوالم أخرة أجهلها : "مرحبا "
- نعم ... تفضل
- طفول .. ألست كذلك ؟
- بلى .. من معي ؟
- مطيع ... هكذا يدعونني
طارت كل الحمائم الساكنة في خلدي وتبعثرت في سمائي كما تتبعثر النجوم في سمائك الليلاء : "مطيع ؟ " ... هنا تعثرت الحروف بين شفتي , بعد ان اعتدتها سيلا دفاقا , أرى الأحرف تنضب وتجف أمام اسمك ...
لا أدري كم من الوقت بقيت صامتة أستمع لأنفاسك وأحس بحرارتها المنبعثة عبر الأسلاك تلفحني ....
حدثتني طويلا عن الألم , وبقيت أنا أستمع إليك مأخوذة بكلماتك التي اعتدت قراءتها على الورق , أما اليوم فصوتك يجعل منها سيمفونية تعزف الجمال بإيقاع متزن منساب , يجعلني أنزلق معه إلى عوالمه الخفية البديعة ... أتذكر ماذا قلت لي قبل أن تغيب , مخلفا إياي ثملة بحلم يقضة جميل ولذة عذبة :" صوتك مخملي عذب ... لم أتخيله بهذا الجمال " .... ورحلت ....
كيف يكون الصوت مخمليا؟ ... تعودت أن اتحسس المخمل على خدي , أمرغ في نعومته وجنتي وشفتي , فكيف تحسست صوتي وبيننا من المسافة والزمن ما لا أعلم , لتحكم على أنه كان مخمليا ... لم تقل يومها :"عيناك غابتا نخيل " , فأنت لا تعرف من عيني سوى ما يحمله لك بريق الأنجم في سماء صنعاء ....
لطالما حدثتني عن حبك للكتب ... لطالما صارحتك بأنني أغار منك , فلم أقرأ كتابا إلا وتكون أنت قد قرأته قبلي .. حتى رواية "وردة" لصنع الله إبراهيم .. التي تباهيت بقراءتها حال صدورها , كنت قد قرأتها قبلي , لماذا قراتها قبلي وهي تاريخي انا لا انت .. ما شأنك و (وردة) ... قلي ماذا لم تقرأ بعد؟ .. أي زخم معرفي هذا يستفزني ويصرخ بي زاجرا : أنت لم تفعلي بعد شايئا قط !! ....
أذكر غرامك بالأدباء الروس على رأسهم كازنتزاكيس ودوستويفسكي .. كم مرة حدثتني على قراءة كتاب (تقرير إلى غريكو ) لكازنتزاكيس ... كازنتزاكيس والأربع درجات التي قسم حياته لها : المسيح , بوذا , لينين , أوليس ... ورحلة دامية بين كل هذه الأرواح العظيمة , ما كان في تقرير إلى غريكوا , كل هذه الروعة التي عشتها انت , وانبعثت فيها أكثر من مرة , بدأتها أنا ولم أكملها حتى الآن . فقط وأدت نفسي فيها , منتظرة حشرا جديد ... قلت مغريا إياي لقراءته :" حلوة صحفاحتة كطعم الشيكولا " .. فأجبتك : " سأبحث عن الكتاب بحثا دؤوبا , على أنني لا أحب طعم الشيكولا , ولكنني سأرعى الشهد المنسل من بين صفحاته " .. ربما لو كنت أحب الشيكولا لكنت انهيت الكتاب ...
كان عتابك مؤلما جدا عندما قلت لي مرة أنني فقدت شغفي بالكتب ولم أعد أقرأ بغزارة كما كنت , ذلك أنني استغرقت ما يربو عن الستة أشهر في قراءة كتاب (رحلتي الطويلة من أجل الحرية ) لنيلسون مانديلا ؟.. لم تكن تعرف عندها أنني أعدت قراءة الكتاب أكثر من مرة واعددت ملخصا خاصا به خلال الستة أشهر التي غرقت فيها بين كلمات مانديلا –زهرة الربيع السوداء – ورائحة الطين الأفريقي والبارود الانجليزي....
وغبت مجددا يا مطيع ... حقا لا أدري أكان أنت من قرر الغياب أم أنا ... وبقيت أحمل معي ذاكرتي المهشمة المترعة بالحزن والألم ...
ثم فجأة وبعد ما يربو عن عامين , تصلني رسالة مقتضبة من سطر واحد مكتوب عليها : " كل عام وانت بخير طفول " ... تأملت الاسم طويلا , مكتوب باللغة الانجليزية –Mutee Dammaj - ... ارسلت لك رسالة مترددة جد مختصرة : "وأنت بخير ... مطيع دماج ؟ .... هل أعرفك؟ ... " .... كنت حتى اللحظة الأخيرة أحاول إقناع نفسي بأنه تشابه أسماء لا أكثر , إلى أن وصلتني رسالتك : " إن كنت طفول-شهد زهران , فأنا مطيع ,, وإن لم , فأنا اعتذر عن الازعاج ..."
ست سنوات حملت فيه اسم شهد الذي لا يعرفني به سواك , ليعود بعد كل تلك السنين ليقول لي انه انت !!! ....
مطيع .. أهذا انت حقا ؟؟؟!!! ............
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق