.
هنا حيث يربك الصمت همهمات الحاضرين , أتأمل الوجوه بصمت . كان يجلس مقابلا لي لكنه ما لبث أن أدار لي ظهره .. حركة النادلات الرشيقة يجعل هذه القاعة الصماء تدب بالحياة . اقترَبَتْ بصمت إلى يميني حاملة بيدها صحن الزبدة البالغ الصغر وحَرَّكَتْ الكأس المختنق بخفة ووضَعته أمامه .. هناك في الجانب الآخر من الطاولة تجلس فتاة ناعسة العينين , تتحدث بسعادة بالغة إلى رفيقتها وتبتسم بين الفينة والأخرى .. أتى رجل القوائم ليسجل حضورا من نوع آخر , فلسنا في قاعة الدراسة . نحن نتحلق حول طاولات مستديرة بيضاء .. تماما كما يبدو لي وجه النادلة الواقفة أمامي.. رنين هاتف يأتي حادا غريبا كأنه من عالم آخر يخترق سكون المكان , إنها ذات الحجاب الملون , تبدو مميزة بلونه الزهري الفاقع بين كل هذه الرؤوس السوداء ... اقتربَ منها بتهذيب كبير معتذرا : " لو سمحتِ , تلك هي طاولة الطالبات " .. وقفت بقوامها الرشيق , كانت فتاة أعرفها , التقيتها مرة في إحدى زيارات كليتهم للجامعة , إسمها ( شائعة ) , أهي حقا كذلك ؟ ... مُحاوِلة للفت انتباهي . اتصَلَتْ ليظهر اسمها على هاتفي ( شائعة الحاتمي يتصل ) .. لوَّحَتْ لي بيدها الرفيعة وابتسَمَتْ . لأرد لها تحيتها الرقيقة بالمثل .. بدأ المكان يكتض بالحضور ... هذه الموسيقى تثير في نفسي شجونا ما , كما أن الوجوه الشاحبة بدت لي أكثر وضوحا , وبدأ أصحاب الخناجر بالتوافد من ذلك الباب الزجاجي الكبير .. كؤوس العصير تضيق بذلك السائل اللزج ذو الألوان المختلفة المملوءة به . رَدَّتْ بود : you are welcome . ومضت تكمل عملها بطريقة آلية اعتادت عليها مع توزيع بعض البسمات الصفراء لهذا وذاك .. هل من الجيد أن أتسلى بفرقة أصابعي في مكان كهذا ؟ .. تبدو الثريات المعلقة أكثر رهبة من المكان نفسه , يعجبني تلألؤها الذهبي وامتزاجه بلون الإنارة الزرقاء .. هناك في الطاولة الأخرى يبدو أبي مستمتعا بالحديث إلى أحدهم , جميل أنه لا يشعر بالملل هنا .. لماذا اختفت الموسيقى فجأة , يصبح المكان أكثر وحشة بدونها .. يبدو شكل فقاعا الماء جميلة عند انسيابه بأناقة في الكأس فاغر الفاه تعطشا لبرودة الماء الذي يرسم خطوطا متقطعة وقطرات بلورية على سطحه الخارجي , منظر يشعر بالعطش .. وقفت إحداهن تقبل صديقتها التي وصلت توا بدو كبير , جميلة هي اللقاءات الودية المفاجئة .. في الطاولة المستديرة خلفي أصيخ السمع لشاب يمهس بأبيات فصيحة يبدو انها من بناته , يبدو لي صوته مألوفا جدا , تمنيت لو أستطيع الالتفات لأعرف من يكون .. بدأ الحفل .. كثير من الأسماء سبقتني .. ثم على حين غرة " جامعة صحار .طفول زهران الصارمي " . لم أكن أبدا مستعدة لسماع اسمي .. وقف وسرت بين الطاولات وانا أتجاهل كل الأنظار الموجة إلي , لا أذكر أبدا كيف كان شكل أمين عام مجلس الدولة وما إذا كان أبتسم أوقال شيئا أثناء تسليمي الشهادة , ولم أنظر ككل الطلبة إلى عدسة المصور المتطفلة على كل الوجوده .. عدت لكنني لم أتوجه إلى مقعدي بل ذهب إلى حيث كان يجلس أبي , انحنيت وهمست له : " بابا خلينا نروح البيت"
- بس الحفل لسا ما خلص
- خلاص خلينا نروح , طولنا على ماما كثير
- لسا الساعة 9
- ما احس بالراحة , ما أبغي أجلس هنا أكثر غادر أبي مقعده وسار إلى جانبي بصمت , وسط ذهوله وحيرته الشديدة من تصرفي الذي لم يعتد عليه . في الخارج كانت المواقف مليئة بأرقى انواع السيارات , وبينها كانت تقف سيارة ( بيك آب – تويوتا 95 ) فتح ابي لي باب السيارة ... رميت الشهادة بغلافها الأحمر المخملي الأنيق وتلك العلبة السوداء الثقيلة لساعة (رادو ) التي لم اعتد حقا ارتداء ساعة مثلها , فكل ساعاتي لا تتجاوز قيمة 5 ريال .. كان عالما لا انتمي إليه .. كان كل شيء مصطنع فيه . حتى اسمي وما سبقه ( أميز طالبة في جامعة صحار , طفول زهران الصارمي ) لم أشعر أنه اسمي .. لم أكن سعيدة أبدا كوني الطالبة الأميز ... عوالمي أبسط من كل هذه الأبهة الزائفة .. انا ابنة الجبل والمزرعة .. وحضيرة الغنم الصغيرة وأقنان الدجاج والسيارة البيك آب المستخدمة.. تظللني النخلة وتنير عوالمي الشمس , لا الثريات ولا الأسقف الاسمنتية .. عرفت محمود درويش وكازنتزاكيس وانا جالسة على الطين بين الأشجار .. عرفت طفول وروحها سابحة في حوض الماء الصغير في قلب المزرعة .. وقلبها معلق أعلى النخلة بين الثمار اللؤلؤية الجميلة .. عرفتها تشمر عن ساعديها وساقيها لتسقي الاشجار الحبيبة , وتمسك ( المجز ) لتعلف لحيوانات المزرعة وتطعهما .. رأيتها كثيرا في المطبخ تطهو لأحبتها , وفي أنحاء البيت تنظف وتمسح غبار الأيام .. تبقى روحي رغم الرحيل والاغتراب معلقة بكل تلك التفاصيل الصغيرة العفوية , تبقى عوالمي البسيطة تعني لي الكون باكمله ...
- بس الحفل لسا ما خلص
- خلاص خلينا نروح , طولنا على ماما كثير
- لسا الساعة 9
- ما احس بالراحة , ما أبغي أجلس هنا أكثر غادر أبي مقعده وسار إلى جانبي بصمت , وسط ذهوله وحيرته الشديدة من تصرفي الذي لم يعتد عليه . في الخارج كانت المواقف مليئة بأرقى انواع السيارات , وبينها كانت تقف سيارة ( بيك آب – تويوتا 95 ) فتح ابي لي باب السيارة ... رميت الشهادة بغلافها الأحمر المخملي الأنيق وتلك العلبة السوداء الثقيلة لساعة (رادو ) التي لم اعتد حقا ارتداء ساعة مثلها , فكل ساعاتي لا تتجاوز قيمة 5 ريال .. كان عالما لا انتمي إليه .. كان كل شيء مصطنع فيه . حتى اسمي وما سبقه ( أميز طالبة في جامعة صحار , طفول زهران الصارمي ) لم أشعر أنه اسمي .. لم أكن سعيدة أبدا كوني الطالبة الأميز ... عوالمي أبسط من كل هذه الأبهة الزائفة .. انا ابنة الجبل والمزرعة .. وحضيرة الغنم الصغيرة وأقنان الدجاج والسيارة البيك آب المستخدمة.. تظللني النخلة وتنير عوالمي الشمس , لا الثريات ولا الأسقف الاسمنتية .. عرفت محمود درويش وكازنتزاكيس وانا جالسة على الطين بين الأشجار .. عرفت طفول وروحها سابحة في حوض الماء الصغير في قلب المزرعة .. وقلبها معلق أعلى النخلة بين الثمار اللؤلؤية الجميلة .. عرفتها تشمر عن ساعديها وساقيها لتسقي الاشجار الحبيبة , وتمسك ( المجز ) لتعلف لحيوانات المزرعة وتطعهما .. رأيتها كثيرا في المطبخ تطهو لأحبتها , وفي أنحاء البيت تنظف وتمسح غبار الأيام .. تبقى روحي رغم الرحيل والاغتراب معلقة بكل تلك التفاصيل الصغيرة العفوية , تبقى عوالمي البسيطة تعني لي الكون باكمله ...
طفول زهران