أ
خجولة منطوية على نفسها عرفتها قبل عام حين دلفت إلى غرفتي ووضعت حقائبها وحاجياتها في الزاوية قرب الباب . وتسمرت في مكانها ترمقني باستحياء لا تدري ما تقول أو ما تفعل
بادرتها بالحديث دون أن أبرح مكاني : " هل أنت الطالبة الجديدة ؟ "
ردت بصوت خافت مبحوح : " نعم " .. وأطرقت دون ان تضيف شيئا , حينها وضعت قلمي على الأوراق المبعثرة أمامي على الطاولة وتوجهت إليها . احتضنت يديها بين يدي : " اهلا بك عزيزتي " , كانتا باردتان وقشعريرة عميقة تولد من عظامها الرقيقة احسستها تنتقل إلى أطرافي . سحبت يديها المنهكتبن الذابلتين والتفتت إلى امتعتها : " أين أضعها ؟ "
- هل أساعدك ؟
- لا .. فقط دليني على خزانتي
- تلك التي لا مفتاح عليها , أقصى اليمين
بدأت ترتب حاجياتها دون أن تخلع عنها عباءتها وجلست أنا على سريري مقابلة لها أتأمل حركاتها التي تفضح ارتباكها وحيرتها
- أنا طفول
- طفول ؟؟
- نعم
وتابعت ترتيب أغراضها دون أن تلتفت إلي , انتظرت أن تضيف شيئا لكنها لم تنبس ببنت شفه
- وانت ؟
- ماذا ؟
- ما اسمك ؟
- حنان
ابتسمت وقلت مداعبة : ذهبت حنان لتأتي حنان أخرى ..
ثوقفت والتفتت إلي : ماذا تعنين ؟
ضحكت وأجبتها : قبلك كانت تسكن معي فتاة تدعى حنان , ولا أدري أي صدفتة جميلة اتت بحنان أخرى إلي , ما أجمل أن يمتلء جو غرفتي بأروع المعاني الانسانية وأشدها أثرا في الروح , لابد انك حنونة مثلها , كانت لي أما محبة رغم انها لا تكبرني إلا بأشهر قليلة .. 4 أشهر فقط .
لم تعقب على ما قلت ولم تبتسم حتى , نظرت إلي في جمود وعادت تكمل عملها ..
..........................
حاولت أن أتقرب منها قدر استطاعتي , لكن في كل مرة كنت ألج فيها إلى نفسها لا أجد سوى الظلام والمجهول .. كم كانت تثير في نفسي التساؤل والحيرة , كلما نظرت إلى عينيها أصدم بكم الحزن الهائل الذي تحمل . كنت أرى انهارا من الدموع تجتاح عينيها عميقة غائرة دون ان تطفو على السطح قطراتها رغم غضبها وهيجانها واحتدامها بشدة خلف تلك العينين السوداوين الصغيرتين الغائرتين في وجهها الأسمر الذابل , ومع ذلك كنت في ليال مظلمة كئيبة أسمع نشيجها المخنوق يأتي خافتا من تحت غطائها ... تنام على سرير عار غير مفروش ولا تضع تحت رأسها مخدة , تكتفي بلف نفسها ببطانيتها الحمراء الخفيفة جدا التي لا يمكن ان تدفع عنها البرد ..
...
لم أستطع أبدا سبر غور هذه الفتاة الغريبة جدا ...
وبعد أسابيع قليلة بدأت تحل العقد التي كانت تلف بها نفسها , ادهشها العالم الجديد الذي جاءت إليه حديثا .. هنا حيث تلبس هي الأثواب الطويلة العريضة وتلف شعرها خشية ان تتضح تفاصيل جسدها وتضاريس أنوثتها , هنا تجتمع الفتيات حاسرات الرأس عاريات الأرداف والسيقان , ملابس ضيقة وقصيرة وفتنة أنثوية مثيرة وألوان قزحية على الشفاه والأعين .. كان كل ذلك غريب تماما عن عالما , بدأت أخاف عليها من كل ما لاحظت عليها من تغير لا يمت لها بصلة ويخفي هويتها التي تميزها عن غيرها , لم أرغب ابدا ان تصبح مجموعة قطع مجمعة منسوخة من أخريات يعشن بسطحية لا تليق بعمق روحها.... أحببت غموضها وعفويتها المزعجة أحيانا .. أحببت الفوضى الداخلية التي تجتاحها وتعصف بها .. لا تزال روحها بكرا لم تعبث بها كل الأفكار الدخيلة الغريبة , أحببت فيها طبيعة الجبل حدة وهدوءا يثير الرهبة , أحببت أشجار الوادي السامقة التي مدت جذورها في تربتها الرطبة , لم أرد لها ان تعبد وترصف بالاسفلت ., لا أريد لمعالمها الجميلة أن تحفر وتأسس عليها عمارات الاسمنت الجامدة , كانت اجمل جدا كما هي ...
ممر طويل يؤدي إلى غرفتي ( أ . 3 . 10 ) , كنت أقطه وتأخذني أفكاري بعيدا إليها , فتحت باب الغرفة بهدوء فألفيتها واقفة تسرح شعرها الطويل الذي يصل حتى ركبتيها , جميل حالك السواد مسترسل .. لم تنتبه لوجودي فقد كانت منهمكة متعبة من طول الوقوف وطول شعرها الذي يبدو انها لا تستطيع الوصول إلى زواياه الجميلة بسهولة
أغلقت الباب خلفي فالتفتت ناحيتي , ابتسمت لها في ود وتوجهت إليها . اخذت المشط من يدها : " دعيني أساعدك "
مشطت لها شعرها ولففته , كنت سعيدة جدا عندما أستشعرت رضاها عن عملي .. التفتت إلي .ابتسمت وشكرتني , كانت المرة الأولى التي أراها فيها هادئة وغلواء روحها ساكنة , ضممتها إلى صدري : " أرجوك كوني كما انت , لا تغيرك العوالم القبيحة التي ترينها "
لم اعانقها بعدها أبدا فقد قررت أن تسكن مع أحد قريباتها وصديقة أخرى
كنت ألمحها بين فترة وأخرى , وكانت تحتفي بي كلما رأتني , تغير فيها الكثير عدا ذلك الحزن العميق الذي تطفح به عينيها . حزن لا أدري إن كان هناك من قرأه سواي
مر العام فقررت إدارة السكن نقلي من الغرفة لعدم تواجد أحد سواي فيها , وعلي ان أسكن في غرفة ثلاثية . لم أذهب بعيدا فقط انتقلت إلى الغرفة المجاورة لغرفتي , بعد أيام عادت حنان لتسكن في ذات الغرفة ( أ . 3 . 10 ) ولكن هذه المرة مع صاحبتيها .
....................................................
كان صباحا جميلا ايقظني فيه اتصال من الشاعر عبدالله العريمي , فتحت النافذة على مصراعيها وأطللت من الدور الرابع على الأرض المبتلة برذاذ خفيف يغسل الروح من غبار الأيام . كان صوت عبدالله الدافء وهو يتلو أحد قصائده من ديوانه (سمني أيها الحب ) والرذاذ البارد الذي يغسل وجهي فردوس جميل لا يمكن أن أحلم باكثر منه . بدأ الرذاذ يتحول إلى قطرات مطر ثقيلة متسارعة , ودعت عبدالله ودلفت إلى الداخل صاعدة إلى غرفتي . رميت الهاتف وخرجت مسرعة لأحظى بعناق طويل حميم مع المطر .
كنت أسير وحيدة والمطر يهمس لي بالكثير ويحدثني عن غياب طويل خبأه القدر حين لمحت حنان تسير لوحدها مطرقة الرأس ,فأسرعت الخطو لأدركها . وضعت يدي حول كتفيها وشددتها إلي : " كيف حالك يا صغيرتي ؟ "
- ابتسمت في استحياء : " بخير .. كيف حالك انت ؟ "
- بخير ... لماذا انت لوحدك ؟ , أين صاحبتيك ؟
أطرقت . ثم قالت بعد صمت لم يطل : " يعدان للامتحان "
نظرت إليها ولا تزال منكسة الرأس , علمت عندها انها ليست على ما يرام .. حزن اعمق مما عهدته فيها ألقى عباءته السوداء عليها : " أنا سأسير معك إذن " .. نظرت إلي بعينين يبللها المطر والدموع التي ظنت أن المطر قد يخفيها : " حسن "
سرنا معا دون أن تنبس أحدانا ببنت شفه .. كان بيننا صمت يتحدث ويبوح بالكثير . أمسكت بيدها وضغطت عليها لتشعر بقربي : "حنان ... اتعلمين أي حزن يبعث المطر ؟ ... وكيف تنشج المزاريب فيه إذا انهمر .. وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع .. بلا انتهاء كالدم المراق كالجياع .. كالحب كالأطفال كالموتى هو المطر ..... حبيبتي , ما خطبك ؟؟؟؟ " .. لكنها لم تجب وبقيت تسير إلى جانبي ممسكة بيدي مطرقة الرأس .
كانت ترتجف كعصفور صغير مبلل , أخذتها إلى الداخل وتركتها تذهب إلى غرفتها لتغير ملابسها المبتلة الباردة ... ولم أرها بعدها حتى اليوم , لكن وجهها الذابل وذلك الحزن الذي يسكن عينيها لم يبرح مخيلتي .. في الأيام التي تلت ذلك اليوم , كنت اصادف رفيقتيها في الجامعة وأتعمد السؤال عنها , ولكن لا جواب سوى ابتسامة خجلى وجواب متردد أنها بخير.
كانت مصادفة عندما طرقت باب غرفتها ذات صباح قريب وعندما دخلت صدمت بان سرير حنان لم يعد موجود : " أين حنان ؟ "
- لم تعد معنا , انتقلت إلى غرفة أخرى
- لماذا ؟
- ذهبت مع صديقاتها
- ولكن حسب ما أعرف فلا صديقات لها سواكما
- لا ندري
لم يكن سيرها تحت المطر وحيدة يومها عبثا , أين ذهبت حنان ؟؟؟؟؟ .
اليوم قررت أن أفهم ما يحدث , توجهت إلى غرفة صاحبتيها التي كانت تسكنها معهن وكنت وإياها نسكنها ذات يوم , طرقت الباب ووجدت في الداخل قريبتها , دخلت وجلست على السرير الذي كان يوما ما سريري
- تعلمين لما انا هنا
- نعم
- أين حنان
- انتقلت إلى غرفة أخرى
- لماذا ؟
- من الأفضل أن تسأليها هي فانت مقربة لها جدا
- أريد ان أسمع منك .. أرجوك أخبريني ما الذي حدث لترحل حنان
- الأمر ببساطة أننا لم نستطع ان نتفق .. فطلبنا منها الخروج من الغرفة وتركها لنا
- ماذا ؟؟؟؟؟؟ .. طلبتما منها ترك الغرفة ؟؟
لم استطع حقا استيعاب ما سمعت .. أي برود قاتل هذا , نزل كلامها علي كالصاعقة في حين أنها اعترفت بطردها من الغرفة دون خجل , :" وحنان ؟ ألم تفكرا في ما سيسببه إخراجكما لها من الغرفة من ألم , ألم تفكرا بالجرح الذي تسببتما به لها ؟؟؟؟ " .... صمتت الفتاة ولم ترد علي.
فتاة عذبة شفافة الروح كحنان لا يمكن أن تحتمل أن تعامل بهذه القسوة واللائنسانية . لم يكن ذبها انها لم تستطع أن تتعايش مع الزيف والقبح الذي يلف العالم من حولها , لم يكن ذنبها أنها عفوية للحد الذي لا يمكن لأي أحد فهمها وأستيعابها . لم يكن ذنبها أن تكون أروع وأنقى من كل الفتيات اللاتي يحطن بها ...
ليت الألم الذي أحسه لأجلها يصلها ويخفف عنها .. ليتني أستطيع الوصول إليها !!!!!!
حنان .. عرفتها لأقل من ثلاثة أشهر في غرقتي الصغيرة ( أ . 3 . 10 ) , فترة قليلة جدا لاعرف عنها كل شيء , لكنها رغم ذلك تعني لي كونا بأكمله, احببته رغم جهلي به .....
طفول زهران
عزيزتي طفول
ردحذفلعل الارق من المطر هو احساس جميل يسكن اعماق قلبك
قليلون هم الذين يبحثون في اعماق الاخرين عن اجابه او مفتاح لذلك الصمت الذي يعتريهم
فـ للحظه تمنيت ان اكون حنان :)
M al kaabi
غاليتي موزة
ردحذففي أعماق كل منا تسكن حنان أخرى بطريقة أخرى
المطر أنشودة الوحدة والألم ، والدموع اللانهائية للكون ، بامتداد قطراته من السماء إلى عمق الأرض يمتد نزف أرواحنا الراعفة
حاجتي لان أكون انا ، تجعلني أبحث في أعماق الأخرين عنهم
كم نحن زائفون ومشوهون خلف جلودنا التي نحتبئ خلفها دون استحياء..
شكرا لروحك البيضاء يا زيزفونة
ياسمنة لقلبك الجميل
كوني بخير .. كوني انت
مودتي ..